الصفحة الرئيسة سجل الزوار تواصل معنا

المقالات

في رحاب الشهر
في رحاب الدعاء
أعمال الليالي
أعمال الأيام
حدائق الأيام الرمضانية
شهر رمضان برنامج رسالي
فقه الصوم
ليالي القدر
يوم القدس العالمي
عيد الفطر

المكتبة

الأعمال والمناسك
الأربعون حديثاً
الآداب والسنن
الفقه الموضوعي
زاد المبلغ
الفكر والنهج الخميني
متفرقات

المكتبة الصوتية

أدعية شهر رمضان
أدعية أيام شهر رمضان
الأناشيد
الأمسيات القرآنية
ترتيل القرآن

المكتبة الفنية

لوحات فنية
مخطوطات
عيد الفطر
   
   

 

شهر رمضان برنامج رسالي

كلمات في البدء
البناية التي تفقد القواعد الثابتة، والأسس الرصينة في جوف الأرض، تكون مهددة بالانهيار والتحطم، ولا يطمئن الإنسان بالجلوس داخلها أو حولها.
وبنفس المعادلة: المبدأ أو القانون الذي لا يمتلك قواعد وأسس ثابتة في النفوس يكون معرضا دائما للمخالفة والانحراف.. وتكون ثقة الناس فيه مهزوزة..
والله سبحانه وتعالى حينما شرع الإسلام وأراد من الناس الإلزام به والمواظبة على تطبيقه جعل له أصولا راسخة وقواعد متينة تشد الناس إلى تنفيذه وعدم الاختلاف عليه والانحراف عنه.

وتلك الأصول والقواعد هي: الأفكار والعقائد الإسلامية
" أصول الدين". فإن أول ما يهتم به الإسلام هو اعتناق الإنسان لهذه العقائد لتكون الأرضية الخصبة لتقبل الفرائض والأحكام الشرعية (فروع الدين).
والآيات الكثيرة- في القرآن الحكيم- التي تحث على العمل الصالح أو تشيد بالقائمين به إنما تذكرة كمرحلة ثانية للعقيدة. يقول القرآن الحكيم وهو يصنف الناس في الحياة إلى فاشلين وناجحين: ﴿وَالْعَصْرِ  * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ *  إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ العصر- ا-3 ومن مفهوم الآية أن من يعمل الصالحات مع فقدانه للإيمان يكون في قائمة الخاسرين.

وفي آية أخرى يقرر أن العمل الصالح لا يمكن أن يؤدي عطاءه إلا بالإيمان: ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ النساء- 124. والنبي- صلى الله عليه وآله- حينما يعرف الدين يقول: " إقرار بالجنان وتصديق باللسان وعمل بالأركان" فالإقرار بالجنان الذي هو العقيدة هو جواز المرور إلى ساحة الدين الإسلامي.

و تفسير هذا الاهتمام الكبير بالعقيدة لأن فيها علاج جميع المشاكل والتساؤلات التي قد يثيرها الإنسان حول الأحكام والتشريعات بالإضافة إلى أنها هي التي تحفز الإنسان للقيام بالتكاليف الشرعية وتخلق لديه الرقابة الداخلية على التطبيق والالتزام.

والذي يتشبث بفروع الدين و جزئياته دون أصوله وقواعده فإنه غير مضمون الاستقامة والالتزام حيث يفقد الضمير الديني والذي تخلقها لعقيدة، وتزدحم لديه علامات الاستفهام حول اكثر الأحكام والفرائض.

وهذه هي المشكلة التي تجعل أكثر شبابنا يقف موقفا سلبيا تجاه كثير من القضايا الشرعية لأنه تلقاها منفصلة عن جذور العقيدة وأصول المبدأ. فالدين الذي عنده كالعمارة التي تفقد القواعد الصلبة والجسور القوية من الطبيعي أن تنهار.

فحينما تخاطب الشاب عن الصلاة: لماذا لا تصلى؟ فانه يجابهك: بل لماذا أصلي؟
وفي مثل هذا الموقف إذا لم يكن للشاب ثروة عقيدية فمن الصعب جدا أن تقنعه بضرورة الصلاة من خلال سرد فوائدها الصحية أو عطائها الاجتماعي.
وتبدو عوارض هذه المشكلة جلية في مثل هذه الأيام حيث يطل علينا شهر رمضان المبارك بأجوائه الروحية وأحكامه الخاصة وذكرياته الخالدة، وحيث نلتقي بالكثير من الأفراد- المسلمين بالهوية- الذين لا يصومون أو لا يقتنعون بالصوم.

وهؤلاء إذا كانوا معتنقين لأفكار الإسلام فمن السهل إقناعهم، حيث أن من أوليات العقائد الإسلامية الاعتقاد بعدالة الله تعالى وحكمته، وذلك يفرض علينا أن لا نتهمه تعالى بالظلم أو بالعبث في التشريع، وإذا كان الصوم من التشريعات الإلهية فلا بد أن يكون صالحا ومهما للحياة، بالإضافة إلى ما نلاحظه من منافع وفوائد يقدمها الصوم للمجتمع. أما إذا كان الطرف المقابل يفقد النضج العقائدي فعلينا أن نبدأ معه من جديد في ألف باء الإسلام..

ولعل من فوائد شهر رمضان المبارك أنه يثير في المجتمع موجة من التساؤل والالتفات والتفكير نحو الدين فعلينا أن نستغل أجواء هذا الموسم الرسالي لنعيد للناس ثقتهم بعقيدتهم ومبدئهم ونلفتهم إلى مواقع القوة والاستفادة في تشريعاته العظيمة التي يحتل الصوم منها جانبا كبيرا. حتى يكسب رمضان أصدقاء جدد في المستقبل.
- فما هي موقعية الصوم في الفكر الإسلامي؟
- وما هو العطاء الذي يقدمه للمجتمع؟
وكيف يمكن للأمة أن تستفيد من الصوم؟
هذه الأسئلة سنحاول الإجابة عليها في هذه الصفحات والله الموفق.
كيف نستفيد من رمضان؟

الإنسان يجب أن يكون في مسيرة تصاعدية دائمة.. ولا يصح له أبدأ أن يقف عند حد معين.. لأن وقوفه يعني وأد قدراته وبالتالي تجميد ثروات الحياة وشل حركتها..
يقول القرآن الحكيم: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ الانشقاق- 6.
فمسيرة العمل والكدح مستمرة إلى أن تنتهي حياة الإنسان في هذا الكون ويؤوب إلى ربه. ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى*  وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى* ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى *  وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى النـجم 39- 42.
وفي الحديث الشريف: من تساوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون، ومن لم ير الزيادة في نفسه فهو إلى النقصان، ومن كان إلى النقصان فالموت خير له من الحياة..

وهكذا يحفزنا الإسلام على مواصلة طريق التقدم والتطور، ويطالبنا بالتغيير الدائم والثورة المستمرة، حتى نحقق في أنفسنا التكامل الإنساني، وفق أهداف الرسالة السماوية بيد أن هناك أمراضا عارضة، وعقبات شاقة، تعترض طريق الإنسان نحو الكمال والتقدم.. فتعرقل المسير! وتشل الحركة!
فما هي هذه الأمراض والعقبات وكيف يمكن علاجها والتغلب عليها ليتمكن الإنسان من الاستمرار في خط الثورة والتغيير نحو الأفضل؟

ا- الغرور:
أول الأمراض هو مرض الغرور الذي يصور للإنسان أنه قد انتهى إلى آخر الشوط، وتسلق ذروة الكمال، وامتطى سنام المجد، فليوقف السير ويكتف بما حصل فليس بالإمكان أبدع مما كان!!
إن الغرور مرض خطير يشل طاقات الإنسان وقدراته ويبرر له الجمود والتأخر ويحجب عنه آفاق التقدم والتطور، فيجعله يعيش في الدنيا متخلفا بائسا وهو يرى نفسه في أحسن حالة وافضل من ا لآخرين..

يقول الإمام الصادق- عليه السلام- وهو يكشف لنا عن هذه الحقيقـــة:" المغرور في الدنيا مسكين"
ويبقى الإنسان (الفرد أو الأمة) متخلفا وهو لا يعلم أنه متخلف لفترة طويلة من الزمن تحت تأثير أفيون الغرور، الذي يخدر الإنسان ويسكره عن واقعه أكثر من إسكار الكحول والمشروبات المسكرة كما يقول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- عليه السلام-" سكر الغفلة والغرور ابعد إفاقة من سكر الخمور "
وتمتد سيقان الغرور البغيضة إلى جميع جوانب حياة الإنسان.. فقد يصاب بالغرور في الجانب العلمي فيكتفي بما توصل إليه، وينقطع عن الدراسة والبحث وحينئذ لا يرتجى له أي تقدم علمي!!

وقد يكون الغرور في الجانب الاقتصادي حيث ينخدع بما لديه من ثروة ومال فلا يفكر بعد ذلك في إبداع طرق جديدة للاستثمار والاستزادة!!
وحتى في المجال الديني لا يسلم الإنسان من الغرور، فقد يتصور فرد أو تتصور أمة انهم شعب الله المختار، وأن أفكارهم وممارساتهم الدينية هي الطريق الأسلم والأسرع لتحقيق رضا الله، وأن الجنة مضمونة لهم لا محالة، تحت شعار: "اعملوا ما شئتم فان مصيركم الجنة"!!
وحينئذ يتجمد التفكير فلا مجال للمناقشة والبحث والتساؤل، ومن اقدم على ذلك عرض نفسه لتهمة التكفير والمروق من الدين، ومن ثم تنحرف المسارات وينعدم البذل وتقل التضحية ويسود الانحراف!!

واعتقد إن مجتمعاتنا الإسلامية تعاني حاليا من هذا الداء الوبيل في مختلف الجوانب فلأننا نمتلك ثروات هائلة من الذهب الأسود (البترول) تقاعسنا عن الصناعة والزراعة والعلم..
بل صرنا نترفع عن العمل، ونستزري الزراعة ونتكاسل عن الدراسة.. واستهوانا الجلوس على المقاعد الوثيرة واستنشاق هواء المكيفات!! لم نفكر كيف نستثمر هذه الثروة قبل أن تنضب وكيف نحولها إلى كفاءات ومصانع وغذاء..

وطريقة تصرفنا في أموال البترول حيث التلاعب والإسراف والتبذير تؤكد غرورنا بما لدينا وعدم اهتمامنا بمستقبلنا الاقتصادي..
وعلى الصعيد العلمي ضاع عندنا الطموح، واصبح طلابنا و أبناؤنا يكتفون بالشهادة التي تحقق لهم لقمة العيش وتؤمن لهم المنصب فقط ثم يتغنون بتراثهم العلمي وتاريخهم المشرق!!

وفي الناحية الدينية يكون الأمر أكثر وضوحا، فمن قال "لا اله إلا الله محمد رسول الله دخل الجنة" و "من صلى في المكان الفلاني كذا ركعة كتبت له براءة من النار" و "من بكى أو تباكى دخل الجنة" والآخرون هم حطب جهنم وهم فيها خالدون!!

فالجنة. محجوزة لنا فقط مع أننا لا نمتلك من الإسلام إلا الهوية والطقوس.. تماما كما كان يعتقد اليهود والنصارى حسب ما ينقل عنهم القرآن الكريم ﴿وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى ولكن القرآن يفند اعتقادهم الزائف ويضع مقياسا حقيقيا للفوز برضا الله ودخول جنته ألا وهو الخضوع الكامل لله والمعاملة الحسنة مع عباده، يقول تعالى ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ البقرة 111-112.

2- السير المعاكس والثورة المضادة:
وثاني هذه الأمراض هو السير المعاكس والثورة المضادة حيث تنعدم الرؤية السليمة، وتفقد النظرة الصحيحة، فيضل الإنسان طريق الحق والتقدم، ويسلك الطريق المضاد، باندفاع وحماس، وهو يتصور أنه إنما يشق طريق الكمال والتقدم، وهو في الواقع إنما يتراجع إلى الوراء ويبتعد أكثر عن خط التطور والكمال. وإلى هذه المشكلة تشير سيدتنا فاطمة الزهراء عليها السلام في خطبتها المشهورة حيث تقول: واطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفا بكم، فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللغرة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافا وأحمسكم فألفاكم غضابا (أي: متحمسين ومندفعين لسلوك طريق الضلال) فوسمتم غير ابلكم و أوردتم غير شروركم (أي: اندفعتم في الاتجاه المعاكس لمصلحتكم).. ابتدارا زعمتم خوف الفتنة، إلا في الفتنة سقطوا وأن جهنم لمحيطة بالكافرين.

وقد سقطت بعض شعوبنا الإسلامية في هوة هذا الضلال الخطير، حيث استوردت مناهج باطلة وايديولوجيات منحرفة، وتحمست لتطبيقها و تنفيذها وداست على كل التقاليد والقيم تحت شعارات الثورية والتقدمية.. مع ضجيج إعلامي وصخب شعاراتي ضخم يوهمك باكتشاف طريق الخلاص والعثور على سر التطور والتقدم.

وها نحن نرى تلك الشعوب المخدوعة كيف أفاقت على نفسها بعد فشل تلك التجربة المريرة لتكتشف أنها ابتعدت أكثر عن طريق التطور وتوغلت اكثر في التأخر والتخلف. وقد حذرنا القرآن الكريم من هذا المرض الخبيث حيث يقول: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا الكهف 103-104.

3- الانهزامية:
وثمة مرض ثالث قد يصيب من سلم من المرضين السابقين ولا يقل خطورة عنهما.. وهو مرض الانهزام والتراجع أمام عقبات الطريق ومشاق السير نحو التكامل والأفضل. فطبيعي أن عملية التغيير المستمر والتقدم الدائم والتطور الحثيث، تصاحبها مصاعب جسيمة، وتصادفها عقبات كأداء، تفرضها طبيعة الحياة والأحياء، ومن لا يوطد نفسه على مقاومة تلك الصعاب، وتخطي تلك العقبات.. فانه لاشك سيتراجع وسيظل يعيش في أوحال التخلف والجمود. تماما كما قال الشاعر:
ومن لم يحاول صعود الجبال               يعش أبد الدهر بين الحفر

هذه هي الأمراض والعقبات الخطيرة التي تحول بين الإنسان وبين التقدم والتطور، ويمكن إيجازها بالشكل التالي:
أولا: انعدام الشعور والإحساس بالحاجة إلى التغيير والتطور.
ثانيا: خطأ الطريق الصحيح وسلوك درب التخلف والانحطاط.
ثالثا: التراجع أمام عقبات السير ومشاق الطريق ولا يمكن التقدم إلا بالتغلب على هذه المشاكل وذلك بتوفير الشعور لدى الإنسان بضرورة التغيير والتقدم، وبعد ذلك هداية الإنسان إلى الطريق المستقيم لتحقيق ذلك الهدف، ثم توطين النفس على مقاومة المصاعب والصمود في وجه العقبات حتى يتحقق الهدف المطلوب..

العلاج الإسلامي:
والإسلام الذي جاء ليقود مسيرة التقدم البشري، ويوجهها في الاتجاه الصحيح والأفضل والأسرع، ما هو علاجه لهذه المشاكل النفسية الخطيرة التي تعترض الطريق وتوقف حركة السير إلى الأمام؟ إن الإسلام برؤاه ومفاهيمه الحقة يدفع الإنسان للقفز على هذه المشاكل وتخطيها، لتحقيق سيطرة الإنسان على خيرات هذا الكون وثرواته التي لم يخلقها الله تعالى إلا لخدمة الإنسان ومصالحه: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً سورة البقرة- 29. ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْه الجاثية-13.

وبالإضافة إلى ذلك فقد أعد الإسلام مواسم ودورات تربوية تستوعب الأمة كلها، لتنمي فيها روح الثورة وتذكي طموح التقدم وتعالج سلبيات المسير وتدفعها قدما نحو الإمام.
وفي طليعة تلك المواسم: شهر رمضان المبارك الذي يستضيف الله تبارك وتعالى فيه جماهير الأمة ليلهمها الثقة والإرادة والصمود والإقدام، كما يقول الرسول الأعظم- صلى الله عليه وآله-:" هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله وجعلتم فيه من أهل كرامة الله".

فرمضان مدرسة التغيير، ودورة التدريب على الثورة والتقدم، ومحطة التأمل في خبايا النفس وحركات السلوك.. ولكنه كأي مدرسة أخرى يحتاج الطالب فيها إلى الالتزام والمواظبة والانتباه والاهتمام، وإلا فسيكون نصيبه السقوط والرسوب ليأتي عليه العام الثاني بموسمه الدراسي وهو يعيش في نفس المستوى السابق.

والمفروض في كل رمضان يأتي على الأمة ثم يغادرها أن تغادر معه السلبيات والأخطاء التي توجد في أجواء الأمة وأن يرتفع بعده مستوى إدراك الأمة ووعيها وتتقوى إرادتها وتتشجع أكثر على الإسراع في المسير، يقول الرسول الأعظم محمد- صلى الله عليه وآله- وهو يتحدث عن دور شهر رمضان في حياة الأمة وتأثيره عليها " إن شهر رمضان شهر عظيم يضاعف الله فيه الحسنات، ويمحو فيه السيئات، ويرفع فيه الدرجات".

ومما يؤسف له أن الأمة بأغلبيتها الساحقة لا تزال تعيش في مستوى معين، وتكرر الرسوب في كل موسم رمضاني من كل سنة! ولذا فإننا نعيش في أسفل درك من الشقاء والتخلف كما حذرنا الرسول الكريم محمد- صلى الله عليه وآله وسلم- حين قال: إن الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم وبالطبع فإن غفران الله إنما يتأتى بالتخلي عن الأخطاء والسلبيات والتصميم على السير في الطريق المستقيم.

أما كيف يمكننا الاستفادة من شهر رمضان المبارك وتحقيق أهدافه السامية في حياتنا؟
فذلك عن طريق الالتزام ببرنامج تربوي يمكننا بواسطته استثمار هذا الموسم العظيم وجني ثمار التغيير من أجوائه المباركة.
لا أن يمر علينا هذا الشهر الكريم كما يمر غيره من سائر الشهور دون أي تغيير في برامجنا اليومية وسلوكنا الاجتماعي.. ولا أن يقتصر التغير على الإمساك عن الطعام طيلة النهار ثم ننتقم لأنفسنا بالشره في الليل.

أو يكون هذا الشهر الكريم مرتعا للأكلات الدسمة والموائد الثرية!! وفرصة للنوم الطويل والكسل القاتل!! وموسما لجلسات اللهو والبطالة لقتل الوقت والساعات في هذا الشهر العظيم الذي تعتبر ساعاته من افضل الساعات وأيامه من افضل الأيام ولياليه من افضل الليالي- كما يؤكد الرسول محمد صلى الله عليه وآله..
إن الواجب على كل فرد مسلم قبيل إشراقة هذا الشهر الكريم أن يعيد النظر في برامج حياته، وينظم له برنامجا خاصا يعينه على الارتفاع إلى مستوى ومكانة هذا الشهر العظيم عند الله. ويمكنه من الاستفادة من أيامه ولياليه وساعاته في سبيل إصلاح واقعه وتطوير حياته..
أما ما هو البرنامج الأفضل والأقدر على استثمار هذا الشهر الكريم؟

فهذا ما تكفلت بتحديده أحاديث قادة الإسلام العارفين بأهدافه والمسؤولين عن توجيه الأمة وتربيتها وفي طليعة تلك الأحاديث تلك الخطبة الغراء التي ألقاها الرسول محمد- صلى الله عليه وآله- على أصحابه قبيل شهر رمضان، وركز فيها على أهم مواد برنامج رمضان الرسالي.

الصوم في رحاب القرآن

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ البقرة 183- 185.

النداء الحبيب
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ....
كم يرتاح الإنسان، وينتعش نفسيا، حينما يرى نفسه مؤهلا لتلقي خطاب، من جهة ذات مكانة اجتماعية، كمرجع ديني، أو ملك أو رئيس.. وإن إعزازه سيزداد سموا وعظمة، إذا كان الحطاب من قبل الله تعالى.. الذي خلق الكون والإنسان.. وهو مسير نظام الحياة.. وهو الذي بيده الخير.. وهو على كل شيء قدير..
والخطاب من قبل الله تعالى، يحمل في طياته قبسا من الهداية، في صورة تكليف. يقول الإمام الحسن عليه السلام : إذا سمعت الله يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ....   فارع لها سمعك، فإنها لأمر تؤمر به أو لنهي تنهى عنه.

وكم يلتذ المؤمن ويرتاح، حينما يقرع سمعه، نداء من خالقه، وقد شحنت حروفه، بطاقات من اللذة والسرور، ولأنه يقيم النداء، ويعرف عظمة المنادي، فحينئذ يذوب عناء القيام بالتكليف، في غمرات اللذة والارتياح، اللذين يبعثهما النداء الرقيق، وتخف وطأة التكليف. روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): " لذة ما في النداء أزال تعب العبادة والعناء ".

وعطاء آخر يمنحه هذا النداء المليء بالعطف والحنان، وهو: تهيئة الأرضية الصالحة، في قلوب المخاطبين، للقيام بالتكليف، حيث يلفتهم إلى أنهم مؤمنون، وهذا يعني خضوعهم وانقيادهم المطلق، لأوامر الله سبحانه وتعالى.
فالإتيان بهذا الخطاب لتذكيرهم بسمة نبيلة يتمتعون بها: الإيمان، فيلاقي الصدى الطيب في نفوسهم، فيقبلون ما يرسم لهم ربهم من الحكم، وإن كان يصطدم بميولهم وأهوائهم.
وبعد أن تغزو الآية القلوب برقتها وحنانها تتجه لتبيين تشريع إسلامي عظيم.

الصوم عبر الأديان
﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وبعد أن تشير الآيــة الكريمة إلى تشريع الصوم، وأنه فريضة كتبها الله علينا، تلفتنا إلى: أننا لسنا أول أمة فرض عليها الصوم، بل انه تشريع عريق في تاريخ البشرية، مما يؤكد أهمية الصوم، وأنه فريضة ضرورية لا غنى لمجتمع عنه.
ولكن ذلك لا يعني أن الصوم المفروض علينا كان مفروضا على من قبلنا، بالضبط في جميع أحكامه، وكل حدوده، فإن الدين الإلهي مر في أدوار تاريخية، وبمراحل من التجديد والتطور، حتى نزل بالصيغة النهائية الكاملة، على يد الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

وقد شمل التجديد والتطوير للدين الإلهي، جانبيه العقيد والتشريعي، إلّا انه في الحقل الثاني يختلف عنه في الحقل الأول، فهو في حقل العقيدة لا يعني سوى التوضيح والتعميق، أما في الثاني فقد يكون تغيير أو تفصيلا..

فالصوم كما تقرره الآية، تشريع مشترك، في جميع الشرائع والأديان، مما يؤكد أهميته، وأنه من الاحتياجات البشرية الأولى، في جميع الظروف والأدوار، التي مرت بها البشرية، ولأن الصوم حاجة ضرورية، تنبع من طبيعة الفرد والمجتمع، وجانب إصلاحي هام، لا غنى للمجتمع عنه. ولكن ليس من الضروري أن يكون في جميع الأدوار السابقة، بهذه الصورة التي مارسها الإسلام، فمن الممكن أن يكون قد أخذ صورا متنوعة، بر الأديان والشرائع، وفقا لنمو الإنسان الاجتماعي، إلى أن أخرجته الشريعة الإسلامية بهذه الصيغة الأخيرة الكاملة.

فلسفة الصوم
﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .
وبعد أن قررت الآية أن الصوم فريضة عريقة، في تاريخ الإنسان، ألمحت إلى فلسفته التشريعية، وإلى آثاره التي يجنيها الفرد، وتنعكس على مسيرة المجتمع. حيث ترجو الآية، أن يكون الصوم مولدا لملكة التقوى، الملكة التي توقف كل إنسان عند حده، وتحجزه عن التجاوز على حقوق الآخرين، وعن الاستجابة لنداءات الشهوة والغريزة، فيصبح إنسانا مثاليا، قائما بواجباته، ملتزما بحقوق أبناء جنسه، وإذا توفرت هذه الملكة عند جميع أفراد المجتمع، فستتحول الحياة إلى جنة نعيم ورخاء، وذلك حينما تغمر السعادة أجواء ذلك المجتمع.

والتقوى تعني لغة: الوقاية والمحاذرة.
واصطلاحا: اجتناب المعاصي والابتعاد عنه
وهناك تقارب ظاهر بين المعنيين: اللغوي والاصطلاحي. سئل كعب عن التقوى فقال للسائل:
هل أخذت طريقا شائكا؟
- نعم.
- فما صنعت؟
- حذرت وتشمرت.
- فذلك هو التقوى.

وكذلك فإن الحياة طريق شائك بالشهوات والميول ودواعي الانحراف، وعلى الإنسان أن يحذر ويشمر في سيره، لئلا تسيل دماؤه من الأشواك، أو تعز به العراقيل، بل أن عليه أن يحطم الأشواك، ويزيل العراقيل، ليسير في طريقه الحياتي بأمن وسلام.

ولكن ذلك يحتاج إلى إرادة صلبة، وعزيمة قوية، فمجاهدة الإنسان لشهواته وميوله وانحرافاته الغريزية، يتطلب إرادة قولة. والإرادة القوية هي التي تملك أن تقبض وتبسط حياة الإنسان، وتحدد شهواته وعواطفه، وبها يكون الإنسان حرا في حياته، بحيث لا تستعبده شهوة، ولا تقهره عاطفة، ولا يملك عليه مصيره أحد. وحينما يملك الإنسان رصيد الإرادة، يستطيع أن يكون تقيا متعاليا، عن أن تناله أشواك الشهوة والانحراف. فالإرادة هي التي تولد التقوى عند الإنسان.

والإسلام لاحظ هذا الجانب الطبيعي للإنسان، فاهتم بتكوين الإرادة لديه، ليستطيع تلبية نداءات الإسلام، واكتساح العراقيل عن طريقة، ففرض عليه "الصوم" الذي هو مدرسة الإرادة، حيث يحد من طغيان الجسم على الروح، والمادية على الإنسانية. ويظهر ذلك حينما نلاحظ:
ا- نوعية الأمور التي حرمها الله على الصائم، وشدة علاقتها بحياته اليومية، كالأكل والشرب. إذا لاحظنا ذلك، عرفنا قوة عملية الصوم، وأثرها في تربية الإرادة عند الإنسان. لأن الإنسان إذا استطاع أن يبتعد اختياريا عن أمور تفاعل معها في سلوكه اليومي، فمن الطبيعي أن تتصاغر أمام إرادته بقية العوامل التي تحاول استعباده، واستغلال موقفه.
2- أن الصوم يحطم قيود الرتابة، ويتغلب على العادة، التي تؤطر الإنسان، طوال أيام السنة. فبمجرد بزوغ هلال شهر رمضان يتغير برنامج حياته، وروتين سلوكه اليومي: فيتغير وقت وجبات طعامه، ووقت نومه واستيقاظه ودوامه وراحته.. وهكذا يحدث شهر رمضان تغييرا كليا في حياة الإنسان، وتمردا عارما على عادته وروتينه.

ولا يخفى ما لهذا من أثر كبير على حياة الإنسان، فان الإنسان الذي يغير مجرى حياته فجأة ولمدة شهر، ولا لشيء، إلا استجابة لأمر واحد من أوامر دينه، لابد وأن تخر على أقدامه الأهواء والعادات، ويبرز في المعركة قائدا منتصرا. بالإضافة إلى أن الإنسان قد تعترضه في الحياة مواقف، يتوقف كسبه لها على تخليه عن رتابته وعادته، ولكنه إذا كان غير متروض على ذلك، فانه سيرجح الالتزام بالرتابة والعادة على استغلال الموقف، وبعكسه الإنسان الصائم.
وبهذا نستطيع التوصل إلى مغزى الآية ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ بعد أن عرفنا: أن التقوى وليدة الإرادة، وأن الإنسان بلا إرادة لا يستطيع أن يكون تقيا، واتضح لنا أن الصوم مدرسة الإرادة ومزرعتها.

بساطة العمل وضخامة النتيجة ﴿أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ .
وبعد أن ألمحت الآيات الكريمة إلى فلسفة الصوم، والنتيجة المجتناة من خلفه، وهي توليد " ملكة التقوى " باعتبارها " رصيد السعادة " لحياة الإنسان، وهي بهذا نتيجة ضخمة ومادة هامة للحياة الاجتماعية أشارت الآية إلى بساطة العمل والتكليف مقابل النتيجة الضخمة.
فما هو إلا أياما معدودات، لا تعدو الثلاثين يوما يحبس الإنسان فيها نفسه، وبمعدل (12) ساعة يوميا تقريبا لينال من بعدها وثيقة تأمين لحياته، تدرأ عنه الأخطار، وتهيئ له الجو السعيد لا في الآخرة فقط بل وفي الدنيا فما أهنأ حياة المتقين في الدارين؟

فسياق الآية يوجه الإنسان إلى المقارنة بين التكليف وثمرته ليتضح له أخيرا ضآلة العمل تجاه النتيجة الضخمة.
والواقع أن الذين يستشقون الصوم، ويستصعبون القيام به لم يتوجهوا للمقايسة بينه وبين نتائجه العظيمة.

أنزل فيه القرآن
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان ِ .
وجاءت الآيات الكريمة، تحدد وقت أداء هذه الفريضة السامية، وتعدد خصائص شهر رمضان، مما يؤهله لأن يكون موسما دينياً، تؤدي فيه فريضة من أعظم الفرائض الإسلامية، فهو الشهر ﴿الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ .

وشهر رمضان كان ظرفا لنزول جميع الكتب السماوية، على الأنبياء، فالتوراة والإنجيل والزبور كلها، أنزلت في ليالي هذا الشهر المبارك، وهذه الكتب المقدسة إنما تعني: أشعة الهداية ترسلها السماء للأرض، وتعني: صيغ النظم الإلهية، التي أعدت لقيادة الإنسان وإصلاح مسيرته، وبهذا يكون شهر رمضان، عيد ميلاد الرسالات والنظم السماوية، وفرصة الاتصال بين السماء والأرض.

وفي شهر رمضان أنزل الله أفضل كتاب هداية، أعدته السماء للأرض، وآخر كلمة في مفكرة السماء، وهو: القرآن الكريم، الدستور الإسلامي الخالد، أنزله الله في هذا الشهر المبارك، محلى افضل وأهم قائد عرفه التاريخ، المنقذ الأعظم نبينا محمد (صلى الله عليه وآله).

وإذا كانت المجتمعات المعاصرة، تهتم وتعظم اليوم العالمي، التي قررت فيه وثيقة حقوق الإنسان، فحري بها أن تحصي وتهتم بشهر رمضان، فإنه شهر نزول أهم وثيقة جاءت لإنصاف الإنسان، ورفع مستواه، ومنحه الحقوق التي تقتضيها إنسانيته، وهو القرآن الكريم، الذي سبق هيئة الأمم المتحدة، إلى تقرير حقوق الإنسان، بأربعة عشر قرنا، الحقوق العادلة، الملائمة لطبيعة الإنسان وكرامته، والتي اقترنت بالتطبيق والتجسيد، في الدولة الإسلامية. وليس الحقوق التي قررتها هيئة الأمم المتحدة، التي لم تعد إلا حبرا على ورق، ولم تنزل إلى ميدان التطبيق. ونظرة فاحصة تكشف لك وضع الإنسان المعاصر في ظل هذه الحقوق المزعومة. فبلدان تستعمر! وشعوب تشرد! وأبرياء يعتقلون! وجرائم تنتشر! وبالتالي خوف مطبق...!

وقد اختلف المفسرون في المقصود من إنزال القرآن في شهر رمضان، فذهب بعضهم إلى أن المراد هو: إنزاله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، وبعدها نزل نجومأ متفرقة، طيلة (23) عاما. وقال آخرون: يعني بداية نزول القرآن في رمضان. ويرى قسم ثالث: أن أكثر القرآن كان نزوله في رمضان، ويقول العلامة الطباطبائي، بعد مناقشة الأقوال السابقة:" يحمل قوله ﴿الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ وقوله ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةُ وقوله: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ على إنزال حقيقة الكتاب، والكتاب المبين، إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وآله دفعة، كما أنزل القرآن المفصل عليه تدريجيا في مدة الدعوة النبوية. وهذا هو الذي يلوح من نحو قوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وقوله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَه القيامة- 16- 19. فإن هذه الآيات ظاهرة في أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان له علم بما سينزل عليه، فنهي عن الاستعجال بالقراءة قبل قضاء الوحي.

ثم عرفت الآيات الكريمة القرآن الحكيم بأنه هدى للناس: يهديهم من الظلام إلى النور، وينقذهم من متاهات الخرافة والضلال، إلى الطريق المستقيم من الهداية والواقع.
والقرآن الكريم شعلة يهتدى بضوئها في جميع مجالات الحياة وكل جوانبها، والخلاصة: هو الحد الفاصل بين الهدى والضلال بين الخرافة والحقيقة، فهو دلالات واضحة وبينات جلية على الواقع الحق، وهو الفرقان بين الحق والباطل.

السنة.. تتحدث عن الصوم..
وقد أولت السنة الغراء الصوم عناية كبيرة، فقد وردت عن النبي صلى الله عليه وآله الطاهرين، أحاديث كثيرة اهتمت بحث الناس على الصوم، وعرضت لما له من العطاء الثري، والعوائد الجمة، و!وضحت الأحكام المتعلقة به، وحيث جاء الحديث عنها، فننتخب بعضا منها:

ربيع العبادة:
من أهم منافع الصوم، هو الانتصار للجانب الروحي، من حياة الإنسان، حيث يبقى الإنسان طوال السنة منغمسا في المادة، منساقا خلف متطلباتها، مهتما بمشاكلها، فيستغرق الجانب المادي الكثير من تفكيره وجهوده، فذا ما استمر على هذا الوضع يخاف عليه من طغيان الجانب المادي، على الجانب الروحي كليا، فتحتل المادة كل شيء في حياته.
وانطلاقا من هذا الموضوع لابد للإنسان من فترة يقوم فيها برحلة هادفة، إلى عالم الروح والمثل والقيم. ولكن أي وقت يكون موسما لهذه الرحلة الهامة؟

وشهر رمضان.. الذي اختاره الله لأن يكون ظرفا لإنزال رحمته.. وهدايته للبشر، المتمثلة في الكتب السماوية المقدسة. جدير أن يكون موسم هذه الرحلة الشيقة، ففرض فيه الصوم، كمركبة ضخمة لهذه الرحلة، وزودت بآليات تزيد في ص عتها، ليصل الإنسان وبسرعة إلى عالم الفضيلة والسمو. وتلك الآليات هي أعمال البر والإحسان، حيث يضاعف ثوابها، ويجزل الأجر للقائم بها، فتصبح الفريضة فيه كسبعين فريضة في غيره، والنافلة كالفريضة..
وبذلك يصبح شهر رمضان ربيع العبادة، وموسم التقرب، وفرصة الاستجمام.

ويبدو أن الرسول (صلى الله عليه وآله) كان في كل عام قبيل شهر رمضان، وفي الأيام الأخيرة من شعبان يخطب ويهيأ الأمة لاستقبال شهر الله فهناك روايات عديدة وبتعابير مختلفة عنه حول هذه المناسبة منها ما روي عن الإمام الرضا عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهم جميعا افضل الصلاة والسلام) قال: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) خطبنا ذات يوم فقال: " أيها الناس انه قد اقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة شهر هو عند الله افضل الشهور، وأيامه افضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته افضل الساعات، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من آهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فسلوا الله ربكم بنيات صادقة، وقلوب طاهرة، أن يوفقكم لصيامه، وتلاوة كتابه، فان الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم، واذكروا بجوعكم وعشمكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقروا كباركم، وارحموا صغاركم وصلوا أرحامكم، واحفظوا ألسنتكم، وغضوا عما لا يحل النظر إليه أبصاركم، وعما لا يحل الاستماع إليه أسماعكم، وتحننوا على أيتام الناس يتحنن على أيامكم، وتوبوا إليه من ذنوبكم، وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلاتكم، فإنها افضل الساعات ينظر الله عز وجل فيها بالرحمة إلى عباده يجيبهم إذا ناجوه، ويلبيهم إذا نادوه، ويستجيب لهم إذا دعوه.

أيها الناس إن أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخففوا عنها بطول سجودكم، واعلموا أن الله تعالى ذكره اقسم بعزته أن لا يعذب المصلين والساجدين، وأن لايروعهم بالنار يوم يقوم الناس لرب العالمين.

أيها الناس من فطر منكم صائما مؤمنا في هذا الشهر كان له بذلك عند الله عتق رقبة ومغفرة لما مضى من ذنوبه. قيل يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): وليس كلنا يقدر على ذلك فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): اتقوا النار ولو بشق تمرة، اتقوا النار ولو بشربة من ماء، فان الله تعالى يهب ذلك الأجر لمن عمل هذا اليسير إذا لم يقدر على أكثر منه.

أيها الناس، من حسن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جواز على الصراط يوم تزل فيه الأقدام، ومن خفف في هذا الشهر عما ملكت يمينه خفف الله عليه حسابه ومن كف فيه شره كف الله عنه غضبه يوم يلقاه، ومن أكرم فيه يتيما أكرمه الله يوم يلقاه، ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن قطع فيه رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه، ومن تطوع فيه بصلاة كتب الله له براءة من النار، ومن أذى فيه فرضا كان له ثواب من أذى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور، ومن أكثر فيه من الصلاة علي ثقل الله له ميزانه يوم تخف الموازين، ومن تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيه من الشهور.
أيها الناس، إن أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة فسلوا ربكم أن لا يغلقها عليكم، وأبواب النيران مغلقة فسلوا ربكم أن لا يفتحها عليكم، والشياطين مغلولة فسلوا ربكم أن لا يسلطها عليكم" الخ ...

وإذ نستقبل الآن شهر رمضان المبارك، ينبغي أن نشكر الله ونحمده إذ انعم علينا بالبقاء لنكون في ضيافة هذا الشهر الكريم، فكم من إنسان قد قضى نحبه بين شهر رمضان الماضي وهذا الشهر؟ وكم من إنسان كانت حياته مهددة بالفناء بين لحظة وأخرى، بصورة طبيعية، أو بالحوادث المفاجئة، إلا أن الله حفظه وأبقاه لينعم ويرفل بهذا الشهر، فعلى هذا ينبغي أن نشكره إذ جعلنا من الأحياء وأتاح لنا فرصة لنتزود بهذا الشهر الكريم. ونسأله تعالى أن يوفقنا لصيام هذا الشهر بكماله وتمامه، وان يجعلنا فيه من سعداء خلقه اللهم سلمنا لشهر رمضان وتسلمه منا وسلمنا فيه حتى ينقضي عنا شهر رمضان وقد عفوت عنا وغفرت لنا ورحمتنا".

أفضل الأعمال:
يركب الكثير من الصائمين، التعرف على افضل الأعمال في هذا الشهر العظيم، ليواظب عليه، فيحرز التقرب إلى الله تعالى، وينال الثواب الوافر. ولكن الأفراد العاديين كثيرا ما يوجهون اهتمامهم إلى جدول الأعمال الخيرة الإيجابية، فيرى البعض: إن افضل الأعمال في هذا الشهر قراءة القرآن، ويرى آخرون: انه إفطار الصائم، ويذهب قسم ثالث إلى: أنه صلة الرحم وعيادة المريض أو تلاوة الأدعية والأذكار..

ولكن الرسول العظيم يلفت أنظارنا إلى جانب آخر، وهو: الجانب السلبي. فيعرف أفضل الأعمال في شهر رمضان، بالاجتناب عن المعاصي، وذلك حينما سأله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ما افضل الأعمال في هذا الشهر؟ قال صلى الله عليه وآله الورع عن! عارم اطه " فعلى من يريد التقرب إلى الله في هذا الشهر المبارك، س وركب ني الحصول عل الثواب الوافر، أن يبتعد عن المعاصي والذنوب، ويعصم جوارحه عن الانزلاق في مهاوي الانحراف والخطأ".

صوم الجوارح:
ليس المقصود من الصوم، أن يجيع الإنسان نفسه ويظمئها، ويتحمل مشقة الالتزام، بدون جدوى وفائدة. بل أن الصوم قصد منه أن يكون مدرسة للروح والضمير، ودروة تكميلية للنواقص البشرية، وحملة تطهيرية لتصفية الرواسب التي تتكلس في قرارات الإنسان خلال أحد عشر شهراً. وذلك لا يتأتى للإنسان، إلا إذا ارتفع عن حضيض الشهوات والمغريات، لا بمجرد الكف عن الطعام والشراب. ومن هنا فان الذي يكتفي من الصوم بهذه الصورة السطحية، تتهرب منه الفوائد المترتبة على هذه الفريضة، وسوف لا يجني سوى حرمان نفسه من الأكل والشرب والتلذذ، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله: رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش.
فالصوم الحقيقي لا يتأتى إلا إذا صام الإنسان بكل فكره وشعوره وجوارحه، فيمنع فكره من التفكير فيما لا يرضي الله، ويحجز شعوره عن حساسية الأنانية، ويكف جوارحه عن التعدي على حقوق الآخرين واستخدامها في المعصية.
والصائم الذي يفكر في الإخلال بالمصلحة العامة والأمن، ليس بصائم حقيقة.

والصائم الذي يشعر أنه مدار الفضل وقطب المكارم وأن لا قيمة للآخرين، ليس بصائم في منظار الواقع.
والصائم الذي يسمح ليده بالسرقة أو للسانه بالغيبة والنميمة أو لعينه بالنظر إلى المحرمات، لا يعترف الواقع له بالصيام.
سمع رسول الله صلى الله عليه وآله امرأة تسب جارية لها، وهي صائمة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله بطعام فقال: كلي. قالت إني صائمة. قال لها: كيف تكونين صائمة وقد سببت جاريتك؟ إن الصوم ليس من الطعام والشرب وإنما جعل الله ذلك حجابا عن سواهما من الفواحش.

وعن الإمام الصادق عليه السلام : " إذا صمت فليصم سمعك، وبصرك، وجلدك عن الحرام والقبيح، ودع المراء، وأذى الخادم، وليكن عليك وقار الصائم، ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك". والواقع: أن الصوم لا يؤدي وظيفته الطبيعية، إلا إذا صام الفرد بكله، وأصام معه الأجهزة التي يديرها، فيعم الصيام المجتمع كله. حيث تصوم الدوائر الحكومية، والمدارس، والمستشفيات، ويصوم الكاتب بقلمه.. ويصوم الفن عن تصوير العهر والراقصات، وتصوم الإذاعات والتلفزة والمجلات والجرائد.. وجميع العوامل التي تلعب دورها في الحياة الاجتماعية.. تصوم عن التهتك والابتذال. فحينئذ يتأتى الصوم أن يبدي نتيجة الطبيعية للحياة.

عطاء الصوم
الإرادة القوية

كم يختلف الناس في شخصياتهم ومواقفهم ومستوياتهم؟ فتجد فيهم الشجاع الذي يتفجر بطولة وصمودا ويهزأ بالمخاوف ويخوض غمار المخاطر تحت شعار: "لا نبالي أوقعنا على الموت أم وقع الموت علينا ".

وعلى العكس من ذلك تجد الجبان المستسلم، الذي يخاف من ظله وينزعج من أطياف منامه، وينهار أمام أقل خطر محتمل!! وترى في الناس العالم المشغف بحب العلم، المتعطش للمعرفة، والذي يبذل ساعات عمره وطاقات جهده، في سبيل العلم والمعرفة.. وفي المقابل ترى الجاهل الذي يسأم الدراسة ويتهرب من العلم والثقافة.
وفي الناس الشخصية الرزينة المتسامية عن الإغراءات والشهوات.. وفيهم الشخصية الحيوانية المائعة التي تسقط لأبسط إغراء، وتنزلق عند اقل شهوة!!
لماذا يختلف الناس هكذا؟

ترى ما هو سبب اختلاف مواقفهم وشخصياتهم؟
هل أن هناك فارقا فسيولوجيا سبب لهم هذا التفاوت؟ كلا فتركيب جسم البطل الشجاع لا يختلف أبدا عن تركيب جسم الجبان الخائف.. وهيكل العالم العارف لا يفرق أبدا عن هيكل الجاهل الغارق في الجهل..
وفسيولوجية الشخص الرزين هي نفس فسيولوجية الشخص المائع. إذا فلماذا الاختلاف؟
هل الظروف والأجواء المعيشية والاجتماعية هي التي تفرض هذا ا لاختلاف؟
كلا. فصحيح أن الأجواء الاجتماعية والظروف المعيشية لها دخل في تكوين شخصية الإنسان، ولكن لا تعدو أن تكون عاملا مساعدا ومشجعا على اتجاه معين بيد أنها ليست العامل الأساس والسبب الرئيسي الوحيد.

والدليل على هذه الحقيقة واضح جدا: فقد يعيش إنسان في ظروف تتهيأ له فيها أجواء الدراسة، وتتوفر أسباب العلم.. ولكنه في الأخير لا يتوفق للعلم رغم كل الأجواء المساعدة بينما يعيش إنسان آخر في أجواء وأوضاع يصعب عليه فيها طلب العلم ولاتتأتى له أسباب الدراسة. ولكنه يصارع الأجواء ويتغلب على تلك الظروف ليصبح عالما عملاقا!! وفوق ذلك فقد يعيش شخصان في جو واحد وظروف متشابهة ثم تختلف شخصيتهما فيما بعد!! أليس كذلك؟
إذا فما هو السبب الرئيسي في صياغة شخصية الإنسان وتحديد مواقفه؟

إنه ليس شيئا من خارج الإنسان يفرض على الإنسان اتجاها خاصا يلبسه شخصية معينة.. وإلا لما كانت للإنسان أية قيمة حقيقية مادام آلة بيد الأوضاع الخارجية المفروضة عليه والتي لا يد له في صنعها.. وحينئذ فلا دور له إلا دور التنفيذ الذي لا يملك محيصا عنه. إذا فلماذا يتوجه إليه الذم أو المدح، وينال العقاب أو الثواب؟
إنما السر الحقيقي يكمن في أعماق نفس الإنسان، ويقبع في داخله.. انه تلك الملكة العظيمة، والجوهرة السامية، وافية الغالية، إنها الإرادة!!
الإرادة هـي الفارق المميز بين الإنسان وبين سائر المخلوقات يقول الله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا وكانت الإرادة هي تلك الأمانة..

والإرادة تعني القدرة على التصميم والإصرار على تحقيق الهدف فحينما يصمم الإنسان على أمر ما ويمتلك القدرة على الصمود من اجل تحقيق ذلك الشيء، فانه لابد وان يصل إلى ما أراد أو يغادر الحياة دون أن يعترف بالعجز أو الفشل!!
فالطالب الذي يريد الوصول إلى مستوى علمي، ويصمم على بلوغ ذلك لابد وأن يجابه كل العوائق والظروف بصموده وإصراره، ويتحمل السهر والتعب والعناء والهجرة والفقر، إلى ان يصل إلى ما يصبوا اليه بقوى إرادته..

والشعب الذي يواجه عدوا مستعمرا وتتحرك فيه إرادة التحرر ويصمم على ذلك، فانه سيكون مستعدا للبذل والتضحية والعطاء حتى ينال الاستقلال والحرية.. كما حدث ذلك بالفعل للشعب الجزائري المسلم الذي واجه طغيان الاستعمار الفرنسي بكل شجاعة وصمود وقدم ما يزيد على مليون شهيد، حتى طرد الاستعمار الأثيم وعاش الحرية والاستقلال..

والإنسان الذي يتعرض لاغراء الشهوة وبريق الانحراف إذا ما تنبهت لديه إرادة التقوى فان جميع وسائل الإغراء ودواعي الشهوة ستتحطم إمام صموده وارادته..
وقد خلد لنا القرآن تجربة ناجحة في هذا المجال مر بها نبي الله يوسف- عليه السلام- الذي كان اجمل شباب عصره وساقته الظروف إلى بيت سيدة مصر زوجة العزيز الفائقة الجمال، وقد اغرمت به وعشقته أبرزت له كل وسائل الإغراء والشهوة وهيأت كل الأجواء والظروف، ولكنه أراد أن يكون عفيفا رغم كل ذلك. يقول القرآن الحكيم: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُون سورة يوسف 23.
هكذا تمارس الإرادة دورها في حياة الإنسان وتوجه سلوكه وتصوغ نفسيته..

ولكن هل يختلف الناس في مستوى أرادتهم وقوتها؟ وإلا فلماذا يمتلك بعضهم إرادة فولاذية قوية بينما يعاني الآخرون خواء الإرادة وضعفها؟
في الواقع: ان مستوى الإرادة واحد عند جميع الناس والقوة والضعف في الإرادة ليس صفة تكوينية أصيلة و إنما هي صفة كسبية ثانوية ينالها الإنسان من خلال ممارساته وحياته تماما كالعضلات التي يمتلكها كل فرد منا بينما نختلف في توة هذه العضلات وضعفها بسبب ممارسة الرياضة والتدريب ومحاولة التقوية..
فعضلاتك يوم ولدت ليست بأقوى من عضلاتي يوم وردت الدنيا، ولكنك لو تعبت على نفسك ومارست رياضة تقوية العضلات بالتمارين ورفع الأوزان الثقيلة وما أشبه ستكون أقوى عضلا مني إن لم أمارس و أتدرب مثلك أليس كذلك؟

وهكذا يكون الأمر في الإرادة النفسية فالإنسان الذي يحاول ترويض نفسه وتدريب إرادته وممارسة الصمود والإصرار منذ بداية تفتحه ش وجميه للحياة.. هذا الإنسان تتوفر له إرادة حديدية فيما بعد.. عكس الإنسان الذي يعيش على أهوائه ويلبى شهواته ولا يؤذي نفسه بالصبر والصمود..

من اجل إرادة فولاذية
من هنا فقد ركزت النصوص والتعاليم الإسلامية على ضرورة ممارسة رياضة النفس لتنمية الإرادة عند الإنسان باعتبارها مفتاح سعادة الإنسان وسر نجاحه وتقدمه..
يقول الله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى النازعات- 40- 41.
ويحذر سبحانه وتعالى الإنسان من الانسياق مع أهواء نفسه وشهواتها، فأنها تورده حياض السوء وتسقطه في حضيض الانحراف، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوء سورة يوسف-53.

أما الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم فيعتبر جهاد النفس ومحاربة أهوائها أهم واعظم من جهاد العدو الخارجي حيث يقول: الجهاد الأكبر هو جهاد النفس.
ويقول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام" اشجع الناس من غلب هواه".
وعن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام قال:" سألني رجل عما يجمع خير الدنيا والآخرة؟ فقلت: خالف نفسك"!
وعن الإمام الصادق عليه السلام:"طوبى لعبد جاهد نفسه وهواه ومن هزم جند هواه ظفر برضا الله".

ولكن كيف يمارس الإنسان رياضة النفس ويقوي إرادته بالتدريب؟ ان ذلك لا يتم إلا بأن يتعمد الإنسان مخالفة نفسه، والتمرد على أهوائه في الأمور العادية والمباحة حتى تتقوى إرادته وتكون قادرة على: الصمود إمام الأمور الخطيرة والمحرمة.
وفي رمضان يفرض الله تعالى على الإنسان هذه الرياضة والتلإريب، حيث يحرم عليه أمورا هي في حد ذاتها مباحة وعادية يمارسها الإنسان في كل يوم كالأكل والشرب- وذلك من اجل تقوبه إرادة الإنسان وتنمية صموده النفسي.

فأنت متعود في كل يوم أن تتناول وجبة الإفطار صباحا، والغذاء ظهرا وأن تشرب الماء كلما عشت وأن تتناول ما يقدمه لك مئديقك حين تزوره.. وكل ذلك ثيء طبيعي وعادي في جميع أيام السنة... ولكن ما ان يطل عليك هلال شهر رمضان حتى تتخذ قرارا جديدا صارما بالامتناع عن كل ما تعودت على تناوله في سائر الأيام!!
فطعام الإفطار والغذاء متوفر أمامك في البيت ونفسك تتوق للأكل، ولكنك تقول لنفسك وبصوت الإرادة: لا.. وتعطش ويلدغك الظمأ وتحن نفسك إلى الماء البارد، أو العصير اللذيذ- ولكن إرادتك تعلن رفضها وإصرارها على تنفيذ قرار الامتناع وتقول لك: لا.

وتأوي إلى فراشك فتجد زوجتك التي أباحها الله لك وقد ترتفع لديك درجة الحرارة الجنسية، وتثور شهوتك وما أن تنتبه لنفسك انك صائم حتى يرتفع هتاف الإرادة من أعماق نفسك: لا.
وهكذا تستمر فترة التدريب والرياضة معك طيلة شهر كامل حتى تتقوى عضلات إرادتك وينمو صمود نفسك، وتكون قادرا على ممارسة الإرادة وعلى قول: لا في الوقت المناسب وأمام أي كسل أو إغراء أو شهوة.

ولا ننسى أن نشير إلى مفعول الإيحاء النفسي لدى الإنسان عند الصوم. فقد يتساءل الإنسان الصائم مع نفسه: لماذا أتحمل الجوع؟ ولماذا اعاني قسوة العطش؟ ولماذا احرم نفسي من الالتذاذ مع زوجتي؟؟ وييز أمامه جواب عريض على شاشة نفسه: لأني قررت الصيام والامتثال لآمر الله تعالى.. ويتكرر السؤال فيتأكد الجواب، وبذلك تتقوى الإرادة هذه الإرادة.

هي الحكمة الأساسية من فريضة الصوم: تقوية. ولكن المشكلة ان كثيرا من الصائمين يغفلون عن هذا الهدف العظيم، ويمارسون الصوم كعادة سنوبه، دون أن يحاولوا التنبه إلى غاية الصوم المهمة!! وهؤلاء في الحقيقة لا يستفيدون أبدا من صيامهم إلا الفائدة الصحية التي يجلبها لهم الجوع والعطش لذلك ورد في الحديث الشريف" رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش". والآن عزيزي الصائم انتقل معك إلى بعض الأحكام التفصيلية للصوم والتي يبرز منها التركيز على الجانب الإرادي1.


1-شهر رمضان برناج رسالي / الشيخ حسن الصفار.