حكم العبادة في المناطق القطبيّة
ظهور الشمس في منتصف الليل!
هل يصحّ أن يكون الإسلام ديناً عالميّاً في حين أنّ بعض أهم أحكامه الشرعيّة من قبيل (الصلاة والصوم) غير قابلة للتطبيق في جميع البقاع المعمورة ؟
إنّنا نعلم أنّ هناك مناطق في القطب بين الشمالي والجنوبي يستغرق فيها كلّ من الليل والنهار ستة أشهر. فمن البديهي عدم إمكانيّة الصوم وكذلك الصلاة اليوميّة بشكلها المقرّر في تلك المناطق.
وهذا الإشكال كثيراً ما طُرح من هنا وهناك في قبال مسألة (عالميّة الدين الإسلامي).
وقبل فترة ذكرت إحدى المجلات المعروفة هذا الإشكال وصاغته بصياغة عجيبة وغريبة حيث قالت: "... بزوغ الشمس منتصف اللّيل يشكّل خطراً على الإسلام...".
إذا كنتم أيّها المسلمون تعتقدون بالإسلام بشكل جازم وتؤدّون الفرائض الدينيّة لوقتها فعليكم أن تدعوا أن لايكون شهر رمضانكم في (فنلاند) أو أي بلد يقع في نواحي القطب، لأنّه كما هو معلوم أنّ الشمس في شهر (أُوت)1 لاتغرب. وهذا الموضوع أصبح يشكّل مشكلة عويصة لعلماء (الأزهر) في مصر...
والآن يعيش بعض المسلمين في (فنلاند) وقد سافروا إليها لأسباب مختلفة، وبما أنّ الشمس لا تغرب في شهر (أُوت) أو تغرب مقداراً قليلاً جدّاً بحيث لا توجب معها فرصة لتناول وجبة غذاء كاملة، فمن ذلك وقع المسلمون في فنلاند في ورطة أمام هذه المشكلة العويصة. فهل يجب عليهم صوم جميع شهر رمضان من أوّله إلى آخره، والإمساك عن الأكل ؟ (وهذا أمر محال)، أو يتركوا إحدى الفرائض المقدّسة لدينهم ؟
ولهذا السبب راجعوا لمعرفة حل هذه المشكلة العلماء والفقهاء في مصر لكنّ هؤلاء العلماء لم يجدوا حلاًّ لهم لحد الآن".
هذا هو خلاصة الكلام الذي نشرته المجلّة المذكورة قبل عدّة سنوات، وقد يرد هذا التساؤل بين حين وآخر حول هذه المسألة.
الجواب:
كما سيتّضح بعد قليل أنّ بزوغ الشمس في منتصف الليل في "فنلاند" لا تشكّل خطراً على الإسلام، ولا أنّه يجب على المسلمين في تلك المناطق الصوم والإمساك عن الطعام طيلة شهر كامل أو شهور أي أنّهم يقومون بعملية إنتحارية في هذه الصورة، وليست هناك ضرورةً إلى نقض هذه الوظيفة الدينيّة المقدّسة أي (الصوم)، ولا أنّ علماء الإسلام سواءً من الشيعة أو أهل السنّة عاجزون عن حلِّ هذه المسألة، وليس من الصحيح أن تسمّى هذه المسألة بأنّها (مشكلة عويصة).
فالجواب على هذه المسألة مذكورٌ في الكتب الفقهيّة، حيث بيّن الفقهاء فيها وظائف المسلمين وتكاليفهم، غاية الأمر أنّ إبتعاد هؤلاء المستشكلين عن بلاد الإسلام وعدم إتّصالهم بعلماء الدين أبرز هذا التساؤل لهم واعتبروها مشكلة عويصة.
ومن الواضح أيضاً أنّ هذه المشكلة لا تنحصر بالصوم فحسب، بل تتجلّى في الصلاة وكثير من التكاليف الدينيّة أيضاً في هذا الموضوع. فهل يمكن القناعة بأداءطيلة شهر كامل أو أكثر؟ وهل يمكن في تلك المناطق التي يبلغ فيها طول اليوم (ستة أشهر) ويتبعه الليل الذي تستغرق مدّته ستة أشهر أيضاً أن يصلّي الإنسان (17) ركعة من الصلاة اليوميّة طيلة سنة كاملة ؟ ولا يُعلم السبب الذي حدى بهذا الكاتب أن يحصر الخطر على الإسلام بزوغ الشمس في منتصف الليل في فنلاند، فلو فرضنا أن اليوم الطويل في شمال فنلاند أو بقية المناطق القطبيّة يولد خطراً ومشكلة عويصة، ولكنّ ذلك لا ينحصر بالإسلام، بل يتوجّه أيضاً إلى أداء مراسم (يوم الأحد) للمسيحيين، وكذلك صلاة وصوم اليهود وغيرهم، لأن الأعمال والطقوس العباديّة موجودة في جميع الأديان، وهي ترتبط بعضها بالليل والنهار والأسبوع والشهر.
وكما تقدّم أنّ هذه المسألة قد نوقشت منذ مدّة طويلة في الفقه الإسلامي، وأجاب عليها العلماء بصراحة، إلاّ أنّ هؤلاء المستشكلين ولعدم إتّصالهم وإرتباطهم بأمثال هذه الكتب والدراسات تصوّروا أنّ المسألة كما هي عويصة في أفكارهم، فأنّها كذلك بالنسبة إلى غيرهم من المسلمين2، وعلى كلّ حال قبل البدء بالجواب من اللازم الإشارة إلى ثلاث نقاط:
إشكاليّة الليل والنهار في المناطق القطبيّة
1 ـ إنّ إستطالة الليل والنهار لأكثر من أربع وعشرين ساعة لا يختصّ بدولة (فنلاند) وبعض المناطق القريبة منها فحسب، بل يتعلّق بجميع المناطق الواقعة إلى الشمال من خط 5،66 درجة إلى 90 درجة. وبعبارة اُخرى: إنّ في جميع المناطق الموجودة بين خط 5،66 وخط 90 درجة التي هي النقطة المركزية في القطب الشمالي أو القطب الجنوبي يكون الليل والنهار طويلاً في جميع السنة أو بعضها. وكلّما تقدّمنا إلى الشمال من خط 5،66 فإنّ مدّة الليل والنهار ستطول، فمثلاً في النقطة الشماليّة من (فنلاند) التي تقع على خط 70 درجة تقريباً في الشمال فإنّ مدّة اليوم الطويل فيها تبلغ (شهرين) حيث يبدأ من أوائل شهر (أُوت) ويستمر بعدها إلى أكثر من شهرين، وهكذا يستغرق الليل فيها شهرين أيضاً (أي أنّ الليلة الطويلة من الناحية الفصليّة تقع مقابل ذلك النهار الطويل).
وعندما نصل إلى خط العرض 74 درجة تكون مدّة يوم واحد (ثلاثة أشهر)، وكذلك يستغرق الليل، وهكذا يستمر الليل والنهار في الزيادة كلّما إرتفعنا أكثر بإتجاه القطب حتّى نصل إلى نقطة القطب يعني الدرجة (90). وفي هذه المنطقة من الكرة الأرضية تتكون السنة الواحدة من نهار واحد وليلة واحدة فقط! بدل 360 يوم ومدّة كلٍّ منهما ستة أشهر! ولكن ينبغي الالتفات إلى أنّ العدد ستة أشهر غير دقيق، لأن طول اليوم في نقطة القطب الشمالي (ستة أشهر وعدّة أيّام) وطول الليل (ستة أشهر إلاّ عدّة أيّام) ولكن في القطب الجنوبي على العكس من ذلك.
ومجموعة النقاط التي تقع فوق خط العرض 5،66 إلى (90) درجة تسمّى (مناطق قطبيّة)، ثم انّ القطب الجنوبي خال من السكّان، ولكن المناطق في القطب الشمالي يوجد أفراد قلائل يعيشون فيها وخاصّة في القسم الشمالي من فنلاند، والسويد، والنروج وروسيا. وأخيراً توجهت مجموعات من العلماء والباحثين إلى المناطق القطبيّة في الشمال والجنوب للبحث والدراسة العلميّة، ويمكن أن نعتبرهم من سكّان هذه المناطق بصورة مؤقّتة. ولكنّ ممّا لا شكّ فيه أنّه حتّى لو سكن شخص واحد في هذه المناطق أو أنّه سافر لمدّة قليلة إليها، فينبغي إستنباط حكمه الشرعي من المتون الإسلامية التي تعتبر عالميّة ولا تختص بنقطة خاصّة من الكرة الأرضية. أمّا في المناطق التي تقع أسفل خط العرض 5،66 درجة فإنّها تتمتّع في جميع أيّام السنة بالنهار والليل، غاية الأمر أنّهما يتساويان في المدّة الزمنية في يومين من أيّام السنة (بداية الربيع وبداية الخريف) ويختلفان في بقيّة الأيّام حيث يزداد أحدهما تدريجيّاً على الآخر أو ينقص. وأمّا في خط الأستواء الذي يعتبر بمثابة الحزام حول الكرة الأرضيّة، فإنّ مدّة الليل والنهار متساوية فيهما دائماً وعلى طول أيّام السنة حيث يعادل كلّ منهما 12 ساعة، ولا يوجد أي تفاوت بينهما في أيّام الصيف والشتاء.
معرفة وقت الظهر ومنتصف الليل في المناطق القطبيّة:
2 ـ النقطة الاُخرى التي تعتبر ضروريّة لحلِّ هذه المسألة هي أنّ الشمس في المناطق التي لا تغرب فيها وكما يصطلح أنّها "شمس في منتصف الليل" نلاحظ أنّ الشمس في الأفق في حالة حركة دائرية دائماً، حيث تدور حول الأفق دورة كاملة كلّ أربعة وعشرين ساعة (وفي الواقع أنّ الكرة الأرضية هي التي تدور، ولكنّه يظهر للناظر أنّ الشمس هي التي تدور).
يعني أنّكم لو كنتم لمدّة شهر في بعض مدن فنلاند التي لا تغرب فيها الشمس، فسوف ترون أنّ قرص الشمس يقرب من الاُفق دائماً ويدور حوله كما تدورعقارب الساعة، وفي كلّ أربع وعشرين ساعة تدور الشمس دورة كاملة في الاُفق بشكل تدريجي من جانب المشرق إلى الجنوب، ومنه إلى جهة المغرب، ومن المغرب إلى الشمال، وتعود مجدّداً إلى نقطة الشرق. والجدير بالذكر أنّ قرص الشمس بالرغم من أنّه يُرى إلى جانب الاُفق دائماً، ولكنّ الفاصلة بينه وبين الأفق تختلف من مكان لآخر، يعني أنّ الشمس تصعد قليلاً أحياناً، ثمّ تهبط شيئاً فشيئاً إلى جهة الاُفق حتّى تصل إلى حدّها النهائي، ثمّ تبدأ في الصعود من جديد وهكذا.
والسبب في تغيير وضع الشمس هو إنحراف محور الأرض 5،23 درجة بالنسبة إلى خط المدار (فتأمّل جيداً). وبهذا الترتيب يمكن أن نحسب نصف اليوم عندما تصل الشمس إلى آخر نقطة من إرتفاعها لأن الشمس في هذا الوقت تكون على خط نصف النهار تماماً. وبعبارة أوضح: إنّ الشمس عندما تصعد تماماً يحين وقت الظهر في تلك المنطقة. وعندما تهبط إلى آخر نقطة (وتصل إلى الحدّ الأقل من إرتفاعها) تكون بالضبط في موقع (منتصف الليل)، فعلى هذا تكون الشمس في الحدّ الأقل من الارتفاع هي الشمس في منتصف الليل.
ومن الواضح أنّ ضياء الشمس يختلف في مدّة الأربع والعشرين ساعة في هذه المناطق، فعندما ترتفع الشمس ويكون النهار قد حلّ في تلك المناطق، فانّ الجوّ سيكون مشرقاً، وعندما تهبط الشمس إلى مقربة من الاُفق فسيقل الضوء بطبيعة الحال ويميل إلى الظلام هو الحال ما بين الطلوعين عندنا. وعلى هذا الأساس نفهم من أنّ سكّان تلك المناطق يتمتّعون في الأربع والعشرين ساعة بليل ونهار، ولكن ليس مثل الليل والنهار عندنا.
وهكذا يتّضح ممّا تقدّم آنفاً أنّ تشخيص وسط الظهر ومنتصف الليل بشكل دقيق في تلك المناطق أمرٌ بسيط تماماً، ويستطيع كلّ فرد معرفة الظهر ومنتصف الليل من خلال شاخص قصير (عود من خشب أو عمود من حديد ينصب بصورة عموديّة على الأرض) من خلال زيادة ونقيصة ظل الشاخص، فعندما يصل ظلٌ الشاخص إلى حدّه الأقل يحين وقت الظهر، وعندما يصل إلى حدّه الأكثر، ففي ذلك الوقت يكون منتصف الليل.
ولكن قد تقول: لقد اتضحت لدينا مسألة تعيين الظهر ومنتصف الليل في تلك المناطق حين يكون النهار طويلاً، ولكن عندما يكون الليل طويلاً ماذا نصنع ؟
وفي الجواب نقول: إنّ من حسن الحظ أنّ حركة النجوم والكواكب في هذه الليالي الطويلة حول الاُفق تشبه حركة الشمس في النهار هناك.
وبعباة أوضح نقول: إنّ الكواكب هناك لا تتمتّع بالطلوع والغروب كثيراً، بل أنّها تدور وتطوف حول الاُفق بشكل جماعي (وطبعاً إنّ الحركة والدوران إنّما هو للأرض لا للنجوم).
غاية الأمر، إنّ دوران النجوم حول الافُق لا يتشابه في كلّ الحالات، فتارة نلاحظ صعودها عن خط الاُفق ثمّ هبوطها إليه كذلك، فلو أخذنا نجمة واحدة ولاحظنا صعودها إلى الحدّ الأعلى من الاُفق فعندها نعلم أنّ ذلك الوقت هو منتصف النهار. وهو وقت الظهر هناك حتماً، وعندما تهبط إلى الحدّ الأدنى من الاُفق فنعلم أنّه منتصف الليل.
ولاينبغي الغفلة عن أنّ ظلام الليل في تلك المناطق لا يكون سواسية دائماً، ففي مدّة الأربع والعشرين ساعة نلاحظ أنّ الجو تخف فيه الظلمة قليلاً (كما هو الحال بعد طلوع الفجر عندنا) وهذا يكون علامة على حدوث النهار، ثمّ يشتدّ الظلام حتّى يكون الظلام غاسقاً، وهو حدوث الليل هناك.
ومن مجموع ما بيّناه آنفاً نستنتج أنّ معرفة الظهر ومنتصف الليل في الأيّام والليالي الطويلة في المناطق القطبيّة مسألة محلولة ولا إشكال فيها، وليست بحاجة إلى وسائل خاصّة من قبيل الساعة والاذاعة وأمثال ذلك.
المقياس..الحد الوسط
3 ـ وآخر نقطة يمكن ذكرها في هذا المقام لتوضيح الجواب هي أنّ من وجهة نظر (الفقه الإسلامي) لايوجد موضوع ولا ظاهرة بدون حكم شرعي، وبعبارة اُخرى: إنّ القوانين الإسلامية جامعة وشاملة بحيث لا يوجد أي موضوع بدون حكم.
وهذا ليس إدّعاءً محضاً، بل هو حقيقة، ويتضح ذلك جلّياً للأشخاص الذين لهم معرفة بالمسائل الفقهيّة، غاية الأمر أنّ الموضوعات على قسمين:
1 ـ الموضوعات التي لها حكم خاص، وذكر لها هذا الحكم في المتون الإسلامية بصراحة (وبالإصطلاح العلمي أنّها منصوصة).
2 ـ الموضوعات التي لم يرد فيها حكم خاص، بل يجب الرجوع إلى القواعد والاُصول الكليّة، وإستنباط حكمها الشرعي منها.
وتوضيح ذلك: إنّ في الإسلام سلسلة من القواعد الكليّة والاُصول الاساسية التي تتضمن حكم جميع المسائل والحوادث التي سوف تقع في المستقبل، وهذه القواعد والاُصول الكليّة شاملة وكليّة بحيث ليس من الممكن أنّ تجد موضوعاً من المواضيع غير مندرج تحت واحد من هذه الاُصول والقواعد (الحصر هنا كما في الاصطلاح حصر عقلي) والموضوع المبحوث عنه ـ يعني وظيفة الأشخاص الذين يعيشون في المناطق القطبيّة ـ هو من القسم الثاني، يعني أنّه من المواضيع التي يمكن إستنباط حكمها من تلك القواعد والاُصول الكليّة.
ولا نريد تعقيد الاُمور على القاريء الكريم بذكر المصطلحات العلميّة والاستدلالات الفقهيّة والبحوث الجارية بين الفقهاء في هذه المسألة، ولكن لا مانع من ذكر قاعدة كليّة واحدة تعتبر أساساً لاستنباط حكم هذه المسألة مورد البحث بالذات ونذكرها بصورة ميّسرة وبدون تعقيد: إنّ الأحكام والمقرّرات الإسلاميّة أساساً ناظرة إلى الأفراد العاديين، والأشخاص الذين يخرجون عن حدود المتعارف بشكل من الاشكال يجب تطبيق سلوكهم مثل الأفراد العاديين.
النتيجة النهائية للبحث
ممّا تقدّم أعلاه تتّضح هذه الحقيقة بشكل سافر، هي أنّ أهالي المناطق القطبيّة لا يجب عليهم صوم جميع الأيّام الطويلة في شهر رمضان كأن يكون اليوم بمثابة شهر عندنا، فلا يجب عليهم الإمساك طيلة ذلك اليوم، أو الاكتفاء بعدّة ركعات لكافّة ذلك اليوم الطويل بل يجب عليهم ملاحظة الاُفق في المناطق المعتدلة ويعملوا وفقه. يعني أن يقوموا باحتساب الأيّام والأسابيع والأشهر طبقاً لما هو موجود في المناطق المعتدلة، وهكذا يكون حساب النهار والليل في مختلف فصول السنة وطبقاً للمناطق المعتدلة كذلك.
وطبعاً كما تقدّم آنفاً، إنّ الظهر الحقيقي في هذه المناطق يمكن معرفته بسهولة من خلال حركة الشمس وإرتفاعها إلى الحد الأعلى من الاُفق، وبواسطة شاخص عادي، وبذلك يدخل في دائرة الحديث المعروف (إذا زالت الشمس دخل وقت الصلاتين) أي الظهر والعصر، فيشملهم هذا الحديث الشريف.
وكذلك منتصف الليل هناك حيث يُعلم من خلال هبوط الشمس ودنوّها من الاُفق بالحدّ الأدنى، فيعلم من ذلك آخر وقت صلاة المغرب والعشاء بهذه الطريقة3.
وبهذا الترتيب يُعلم بداية وقت صلاتين من الصلوات اليوميّة الخمسة، ونهاية وقت صلاتين اُخرى دون الاحتياج إلى وسيلة من الوسائل، بل من خلال حركة الشمس فقط.
وتقدّم في معرفة الليل والنهار هناك أنه يتم من خلال زيادة الضوء وقلته في الجوّ بواسطة إرتفاع وانخفاض الشمس. وكذلك من خلال زيادة الظلام وقلّته في الليالي الطويلة في تلك المناطق بشكل محسوس.
والشيء الأخير المتبّقي هو معرفة بداية (طلوع الفجر) وكذلك وقت (غروب الشمس) لأن المفروض أنّ الشمس هناك لا تشرق ولا تغرب إلاّ مرّة واحدة طيلة شهر كامل أو كثير. بل تدور حول الاُفق. والطريق إلى معرفة ذلك هو الرجوع إلى بداية الفجر والمغرب في المناطق المعتدلة. وبعبارة اُخرى، إنّهم يمكنّهم الاعتماد على تقويم بسيط كما هو موجود في المناطق المعتدلة فى تعيين بداية شهر رمضان عندنا، ويمكنهم العمل وفق ذلك.
وبعبارة أوضح أيضاً: إنّهم باستطاعتهم الاستماع إلى أذان الصبح في المناطق المعتدلة، ويشرعون في صومهم، وعندما يسمعون أذان المغرب في المناطق المعتدلة كذلك يفطرون. (وطبعاً يجب الأخذ بنظر الاعتبار محل منطقة الأذاعة وضرورة كونها موافقة لمحل سكن الشخص من حيث الاُفق، أي أن تقع النقطتان على خطّ نصف النهار، مثلاً الأشخاص الذين يسكنون في شمال فنلاند يمكنهم الاستفادة من الأذاعات التي تبث برامجها في المناطق المعتدلة التي توازيهم في الاُفق.
ملاحظات
1 ـ قد يسأل بعض الأشخاص: نحن نعلم أنّ المناطق المعتدلة ليست متساوية، فلا يتساوى الليل والنهار فيها جميعاً، مثلاً نلاحظ أنّ بداية فصل الصيف في بعض هذه المناطق تستغرق خمس عشرة ساعة في اليوم، وفي بعضها الآخر أربع عشرة أو وثلاث عشرة ساعة، وهذا الاختلاف يرتبط ببعدها وقربها عن خط الاستواء.
الجواب: يمكن حل هذه المشكلة بمراجعة الحدّ الوسط في المناطق المعتدلة (وبالأصحّ الحد الوسط في المناطق غير القطبيّة التي تتمتّع بليل ونهار متعارفين) يعني أن أهالي المناطق القطبيّة يمكنهم إتخاذ المدار 25،33 درجة مثلاً معياراً لهم (أي متوسط 5،66درجة).
2 ـ ويمكن أن يعترض البعض أيضاً: أنّ هذا الحكم بالرغم من سهولته ووضوحه وإمكان تحقّقه في عصرنا الحاضر بوجود الساعة وكذلك الاذاعة، ولكنّ الإشكال في الأشخاص الذين لا يمتلكون هذه الوسائل، فما هي وظيفتهم الشرعيّة؟
الجواب: أنّه كما تقدّم في معرفة وقت الظهر ومنتصف الليل في تلك المناطق لايحتاج عندها إلى الساعة وغيرها، وإنّما يحتاج إليها لمعرفة طول النهار والليل هناك، فلو لم يحصل الأشخاص هناك على هذه الوسائل والأدوات كالساعة والاذاعة لتعيين الوقت، أو كأن يكون الجو غائماً مثلاً، فإنّ وظيفتهم هو العمل وفق التخمين والظنّ، وفي صورة التمكّن من الاحتياط، يجب عليهم العمل وفق التخمين والحدس.
3 ـ ويمكن أن يسأل بعض الأشخاص أيضاً: إنّ إرتفاع وإنخفاض الشمس طيلة أربع وعشرين ساعة في المناطق القطبيّة التي هي وسيلة لمعرفة الظهر ومنتصف الليل لاتوجد في مدار تسعين درجة لأنّ الشمس هناك تتحرك بشكل دائري دون إي إرتفاع وإنخفاض (وقد تقدّم مراراً أنّ الحقيقة هي دوران الأرض حول نفسها، ولكنّ الناظر يرى أنّ الشمس هي التي تدور ظاهراً). والخلاصة أنّه بالنسبة إلى هذه النقطة حيث إنّ الشمس في الاُفق تدور دون إرتفاع أو انخفاض، فليس للظهر ومنتصف الليل أي مفهوم هناك.
الجواب: أنّ المدار تسعين درجة في حقيقته هو نقطة وهميّة، أو يمكن القول أنّ المدار تسعين درجة إنّما هو قطعة صغيرة من الأرض بحيث لو تجاوزناها قليلاً فسوف نحصل على ارتفاع وإنخفاض الشمس، وظهور وقت الظهر ومنتصف الليل، ويمكننا حينئذ العمل بوظائفنا الشرعيّة بصورة كاملة.
4 ـ ويمكن أن يتساءل أنّه بعد الفراغ من توضيح الوظائف الشرعيّة للمكلّف فى الأيّام الطويلة هناك، فما العمل في الليالي الطويلة ؟
الجواب: كما تقدّم في البحث أنّ "النجوم" في هذه الليالي لها وضع مماثل بوضع الشمس في النهار. أي أنها تدور حول الاُفق دائماً. فتارة يرتفع ويزداد ابتعادها عن الاُفق، واُخرى ينخفض، فلو أُخذت نجمة واحدة قريبة من الاُفق، فيمكن معرفة الظهر ومنتصف الليل من الحدّ الأعلى والأدنى في ارتفاعها وانخفاضها.
ومن مجموع ما ذكرنا من ايضاحات حول هذه المسألة اتّضح جيداً أنه لا شمس في منتصف الليل في "فنلاند" قد عرّضت الإسلام للخطر، ولا أن أهالي تلك المناطق لو كانوا مسلمين يواجهون حيرة شديدة في اداء التكاليف الشرعية. ولا أن هذه المسألة مشكلة عويصة يصعب حلّها!4.
1- أغسطس هو الشهر الثامن حسب التقويم الغريغوري، ويحتوي هذا الشهر على 31 يوما. ويسمى هذا الشهر آب في بلاد الشام والعراق، وأوت في تونس والجزائر، وغشت في المغرب،
2- لقد ذكر حكم هذه المسألة بصراحة في كتاب "العروة الوثقى" للعلاّمة المحقًّق المرحوم السيد اليزدي. وهو من الكتب الفتوائية المعروفة، وقد كتب عليه جميع العلماء الكبار من المتأخرين والمعاصرين تعليقاتهم الفقهية.
3- إن نصف الليل المتحصل بهذه الطريقة يعادل نصف ما بين غروب وشروق الشمس، بينما نصف الليل الشرعي هو نصف ما بين غروب الشمس وطلوع الفجر ولهذا يكون منتصف الليل الشرعي قبل منتصف الليل المتعارف قليلاً.
4- بحوث فقهية مهمة / اية الله مكارم الشيرازي. |