قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ شَهْرُ اللهِ
بسم الله الرحمن الرحيم
سماحة الشيخ خليل رزق
عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: "إنّ رسولَ اللهِ (صلّى اللهُ عليه وآله وسلم) خطبنا ذاتَ يومٍ فقال: أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّهُ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ شَهْرُ اللهِ بِالْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ.... قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَفْضَلُ الأَعْمَالِ فِي هَذَا الشَّهْرِ؟ فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَسَنِ، أَفْضَلُ الأَعْمَالِ فِي هَذَا الشَّهْرِ: الْوَرَعُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ"عزَّ وجلَّ"1.
الصوم فريضة من الفرائض الإلهية التي أوجبها سبحانه وتعالى على عباده، وقد عبّرت الروايات الشريفة عن موقع هذه الفريضة وأهميتها في حياة الإنسان، وما لها من آثار وفوائد تربوية ونفسية.
لماذا كان الورع عند الصوم أفضل الأعمال؟
كما لاحظنا في خطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسؤال الإمام علي عن أفضل الأعمال في هذا الشهر أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أجاب بـ"الورع عن محارم الله" ولعل السبب في ذلك هو أنّ الورع والكف عن المحارم عنوان يجمع كل العناوين التي أمر الله تعالى الإنسان بالإبتعاد عنها وعدم إرتكابها وهي المحرّمات التي حرّمتها الشريعة الإسلامية، وفي بعض الروايات أن الورع يساوي التقوى.
فإذا ما تحقّق الورع أو التقوى تحقّق الإلتزام والإيمان الفعلي في الإنسان.
ولكن إذا وجّهنا السؤال إلى الناس عن أفضل الأعمال في هذا الشهر فسوف نسمع أجوبة متعددة ومختلفة.
فهناك من يقول: أفضل الأعمال في هذا الشهر قراءة القرآن، وآخر يقول: إنّه إفطار الصائم، و يرى آخرون: إن أفضل الأعمال صلة الرحم وعيادة المرضى، ويصف البعض بأنه تلاوة الأذكار والأدعية المأثورة... والحاصل أن كلّ شخص يتوسلّ بنوع من الأنواع الخيّرة ويعتبره أفضل الأعمال في شهر رمضان.
ولا ينفي ذلك أهمية جميع هذه الأعمال ولكّن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحدّد لنا من موقعه ومعرفته بما عند الله تعالى بأن أفضل الأعمال في هذا الشهر هو الورع عن محارم الله تعالى.
وعند إقبال هذا الشهر وقدومه علينا يفترض بنا النظر بدقة إلى استقباله والتهيؤ له، والإستعداد للقيام بجميع الفرائض المطلوبة منّا تجاه هذا الضيف الكريم.
فالوظيفة الأساس وفقاً للمنهج النبوي عند قدوم شهر رمضان العمل على الكف والورع عن محارم الله عزّ وجلّ.
لقد أقبل شهر الله تعالى، ولكل قادم كرامة، فكيف إذا كان القادم والمقبل إلينا هو ذلك الزمان الذي جعله الله تعالى باباً وفرصةً لنيل مرضاته، ومغفرة الذنوب، ونزول الخيرات والبركات.
ولعل جواب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يكشف لنا بأنّ أعظم ما يمكن أن نستقبل به هذا الشهر هو العمل على الكفّ عن المحارم والورع والتقوى.
وظيفة الإنسان عند قدوم الشهر الكريم
في محاولة الإنسان للوصول إلى القرب الإلهي نجده يبحث عن أفضل الأعمال في جدول الأعمال الخيّرة الإيجابية، بينما نجد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يلفت أنظار المسلمين إلى الجانب السلبي من هذا الجدول ويشير إلى أنّ أفضل الأعمال في شهر رمضان المبارك الإجتناب عن المعاصي.
ولا يخفى أنّ الملاك في التديّن هو نظرة الشرع المقدّس، لا يظنه هذا ويراه ذاك.
والإسلام إذ يعتبر أن الملاك في عملية تكميل الإيمان بعد الإتيان بالفرائض هو الكفّ عن محارم الله تعالى.
في الحديث النبوي يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): "ألا إنّ مثل هذا الدين كمثل شجرة نابتة ثابتة، الإيمان أصلها، والزكاة فرعها، والصلاة ماؤها، والصيام عروقها، وحُسْنُ الخُلق ورقها، والإخاء في الدين لقاحها، والحياء لحاؤها، والكفّ عن محارم الله ثمرتها، فكما لا تكمل الشجرة إلاّ بثمرة طيبة، كذلك لا يكمل الإيمان إلاّ بالكفّ عن محارم الله"2.
فالورع والكف عن محارم الله تعالى هو الثمرة الأساس التي ينبغي أن تظهر من الإيمان، وهو أحد أبرز النتائج المترتّبة عليه، وما لم يكن هناك ورع يبقى الإيمان صورة وشعاراً لا معنى له.
ولأجل بيان أهمية الورع والكف عن المحارم وأثره في تحقيق السعادة الإنسانية، وتوضيح مغزى كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنسبة إلى أفضل الأعمال في شهر رمضان لا بد من معرفة الذنب وآثاره الوضعية والشرعية، ومعرفة النتائج والآثار المترتبة على تركه والإنتهاء عنه.
ما هو الذنب؟
الذنب عبارة عن مخالفة القوانين الإلهية وإتباع الأهواء والرغبات التي تلحّ عليها النفس الإنسانية، من دون رادع أو مانع.
والذنب بمثابة السمّ القاتل للإنسان أو دون ذلك، وارتكابه يترتّب عليه الأثر الوضعيّ والتكوينيّ.
ولا يجوز للإنسان التهاون في الذنب صغيراً كان أم كبيراً، بل عليه أن ينظر إلى من يعصي.
يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا تنظروا إلى صغر الذنب ولكن انظروا إلى من اجترأتم"3.
والذنب من أسباب غضب الله تعالى، والدخول في ولاية الطاغوت، وقسوة القلوب، والحرمان من الرزق، ونقصان العمر.
عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: "من يموت بالذنوب أكثر ممّن يموت بالآجال"4.
وهو من أسباب زوال النعم وحلول النقم، وعدم استجابة الدعاء.
الإسلام ومعالجة الإنحراف البشري
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنسبة إلى البشر الطبيب الحاذق الذي يقف على رأسهم عند ابتلائهم بالذنوب والمعاصي، ويعمل على إبعادهم عنها لتحقيق تكاملهم المعنوي، وفي هذا الصدد يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "طبيب دوّار بطبّه، قد أحكم مراهمه وأحمى مواسمه، يضع ذلك حيث الحاجة إليه في قلوبٍ عميٍ وآذان صم وألسنة بُكم"5.
وكان منهجه يطابق تماماً المنهج الطبي بشأن صحة الناس وسلامتهم.
فللأطباء منهجان في معالجة المرض:
أحدهما: إيجابي.
والثاني: سلبي.
وفي المنهج الإيجابي يقولون للمريض: إحتقن بالإبرة، أو إستعمل هذا الكبسول، واشرب من هذا الشراب ملعقة واحدة... وفي الجانب السلبي يقولون للمريض: لا تأكل العنب، لا تشرب الخل، لا تأكل المأكولات الدسمة، وهكذا...
والمنهج الديني النبوي يطابق المنهج الطبي تماماً، يقول للمسلم من جهة: أَقِم الصلاة، صم شهر رمضان، ليكن كسبك حلالاً، ...
ومن جهة أخرى يقول له: لا تكذب، لا تغتب، ...
فالجانب الإيجابي في الدين يسمى الواجبات، بينما يطلق إسم المحرمات على الجانب السلبي.
وما لم يلتزم المريض بأوامر الطبيب في الجانب السلبي ويتوقى ما حذّره منه فإنّ المعالجات الإيجابية لا تنفعه أصلاً.
وقد يتمكن المريض عند عدم الوصول إلى الطبيب من خلا الحمية أن يجعل لنفسه نوعاً من المناعة الذاتية التي قد تنجيه من تفاقم المرض.
يقول الإمام الكاظم (عليه السلام): "الحمية رأس الدواء"6.
وعلى هذا المنوال تنسج التعاليم الإسلامية نسجها في تحقيق السعادة المعنوية، فالإنسان السعيد هو الذي يطبق التعاليم الإيجابية والسلبية، يأتي بجميع الفرائض ويترك جميع المحرمات.
ومع ذلك فإنّ كفّة الإبتعاد عن الذنوب (الجانب السلبي) ترجّح في ميزان السعادة البشرية على كفّة الإتيان بالواجبات (الجانب الإيجابي). وهذا هو معنى التقوى.
وليس صيام شهر رمضان إلاّ مظهراً من مظاهر الاجتناب عن المفطرات بنيّة التقرّب إلى الله تعالى، ولقد أوجب الله تعالى الصيام على الأمم السالفة، وعلى الأمة الإسلامية كي يتمرّن الناس في هذا الشهر على الحصول على ملكة التقوى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾7.
ونظراً لأهمية الاجتناب عن المحرمات ورجحانه على كفّة الآيات بالواجبات نجد أنّ الروايات ركّزت على ذلك ومنها:
* عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: "في ما ناجى الله عزّ وجلّ به موسى (عليه السلام): ما تقرّب إليّ المتقرّبون بمثل الورع عن محارمي"8.
* وعن الإمام علي (عليه السلام) قال: "إجتناب السيئات أولى من اكتساب الحسنات"9.
التفكير في الذنب
ارتقى الإسلام بتعاليمه إلى ما هو أبعد من التحذير من ارتكاب الذنوب حيث نبّه إلى ضرورة عدم التفكير بالذنب الذي هو من أهم عوامل انحطاط البشرية وتقهقرها.
فالإنسان الواقعي هو الذي لا يكتفي بترك الذنوب فحسب، بل لا يفسح مجالاً في ذهنه وفكره للتفكير في الذنب، ولا يدع الفكرة المظلمة تمرّ بخاطره... فإنّ التفكير في الذنب حتى ولو لم يصل إلى مرحلة التطبيق، يوجِد ظلمة روحية في القلب ويمحو الصفاء الروحي من الإنسان.
يقول الإمام علي (عليه السلام): "صيام القلب عن الفكر في الآثام، أفضل من صيام البطن عن الطعام"10.
ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) راوياً عن عيسى بن مريم (عليه السلام) أنه كان يقول: "إنّ موسى أمركم أن لا تزنوا، وأنا آمركم أن لا تحدّثوا أنفسكم بالزنا، فإنّ من حدّث نفسه بالزنا كان كمن أوقد في بيت مزوق فأفسد التزاويق الدخان وإن لم يحترق البيت"11.
فالتفكير في الذنب يوجد ظلمة في القلب -شاء الفرد أم أبى- وتسلب صفاء النفس، حتى لو لم يرتكبه الإنسان.
وشهر رمضان فرصة عظيمة وهامة أمام الإنسان ليس فقط من أجل الإقلاع عن الذنوب وعدم التفكير بها، بل حتى لتنظيف وتطهير النفس الإنسانية من كل ما عَلُق بها خلال الأيام والشهور الماضية. وهذا أعظم ما يمكن أن نكتسبه من خلال شهر الخير والرحمة والبركة.
والحمد لله رب العالمين
1- الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 154.
2- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري: ج11، ص279، ج15.
3- بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج74، ص170.
4- المصدر نفسه: ج5، ص140.
5- شرح نهج البلاغة، محمد عبده: ج1، ص206.
6- سفينة البحار، الشيخ عباس القمي، ص245.
7- سورة البقرة، الآية:183
8- غرر الحكم ودرر الكلم، الآمدي، ص57.
9- مستدرك الوسائل، النوري، ج2، ص302.
10- غرر الحكم ودرر الكلم، ص 203.
11- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج5، ص37. |