شهر رمضان والانفتاح على الذات
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ سورة البقرة: 185.
لو تأمل كل إنسان في ذاته، واستقرأ حياته وأوضاعه، لوجد أن له أفكارا يتبناها، وصفات نفسية وشخصية يحملها، وسلوكاً معيناً يمارسه، وأنه يعيش ضمن وضع وقالب يؤطر حياته الشخصية والاجتماعية.
والسؤال الذي يجب أن يطرحه الإنسان على نفسه هو: هل أنه راضٍ عن الحالة التي يعيشها؟ وهل يعتبر نفسه ضمن الوضع الأفضل والأحسن؟ أم أنه يعاني من نقاط ضعف وثغرات؟ وهل أن ما يحمله من أفكار وصفات وما يمارسه من سلوك شيء مفروض عليه لا يمكن تغييره أو تجاوزه؟ أم أنه إنسان خلقه اللَّه حراً ذا إرادة واختيار؟
إن هذه التساؤلات كامنة في نفس الإنسان، وتبحث عن فرصة للمكاشفة والتأمل يتيحها الإنسان لنفسه، لينفتح على ذاته، وليسبر غورها، ويلامس خباياها و أعماقها.
ورغم حاجة الإنسان إلى هذه المكاشفة والمراجعة، إلا أن أكثر الناس لا يقفون مع ذاتهم وقفة تأمل وانفتاح لأسباب أهمها ما يلي:
أولاً: الغرق في الانشدادات الحياتية العملية، وهي كثيرة ما بين ماله قيمة وأهمية، وما بين ما هو تافه وثانوي.
ثانياً: وهو الأهم، أن وقفة الإنسان مع ذاته تتطلب منه اتخاذ قرارات تغييريه بشأن نفسه، وهذا ما يتهرب منه الكثيرون، كما يتهرب البعض من إجراء فحوصات طبية لجسده خوفاً من اكتشاف أمراض تلزمه الامتناع عن بعض الأكلات أو أخذ علاج معين.
دعوة إلى مكاشفة الذات:
في تعاليم الإسلام دعوة مكثفة للانفتاح على الذات ومحاسبتها، بعيداً عن الاستغراق في الاهتمامات المادية، والانشغالات الحياتية التي لا تنتهي. ورد في الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا).
وعن الإمام علي عليه السلام: (ما أحق الإنسان ان تكون له ساعة لا يشغله عنها شاغل، يحاسب فيها نفسه، فينظر فيما اكتسب لها وعليها في ليلها ونهارها).
إن لحظات التأمل ومكاشفة الذات تتيح للإنسان فرصة التعرف على أخطائه ونقاط ضعفه، وتدفعه لتطوير ذاته نحو الأفضل. يقول الإمام علي عليه السلام: (ثمرة المحاسبة إصلاح النفس).
ويقول عليه السلام: (من حاسب نفسه ربح ومن غفل عنها خسر).
ولعل من أهداف قيام الليل حيث ينتصب الإنسان خاشعاً أمام خالقه، وسط الظلام والسكون، إتاحة هذه الفرصة للإنسان.
كذلك فان عبادة الاعتكاف قد يكون من حكمتها هذا الغرض، والاعتكاف هو اللبث في المسجد بقصد العبادة لثلاثة أيام أو اكثر مع الصوم، بحيث لا يخرج من المسجد إلا لحاجة مشروعة.
شهر التأمل:
لا يوجد شهر آخر يماثل شهر رمضان فهو خير شهر يقف فيه الإنسان مع نفسه متدبراً متأملاً ففيه (تتضاعف الحسنات، وتمحى السيئات) كما روي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، وفي هذا الشهر فرصة عمر كبرى للحصول على مغفرة اللَّه (إن الشقي من حرم غفران اللَّه في هذا الشهر العظيم) كما في الحديث النبوي، وفي رواية أخرى: (من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فأبعده اللَّه) وورد أيضاً عنه صلى الله عليه وآله وسلم: (فمن لم يغفر له في شهر رمضان ففي أي شهر يغفر له).
وقد يغفل ال بعض عن أن حصول تلك النتائج هو بحاجة إلى توجه وسعي، فهذا الشهر ينبغي أن يشكل شهر مراجعة وتفكير وتأمل ومحاسبة للذات، إذ حينما يمتنع الإنسان في هذا الشهر الكريم عن الطعام والشراب وبقية الشهوات التي يلتصق بها يومياً، فإنه يكون قد تخلص من تلك الانشدادات مما يعطيه فرصة للانتباه نحو ذاته ونفسه، وتأتي تلك الأجواء الروحية التي تحث عليها التعاليم الإسلامية لتحسّن من فرص الاستفادة من هذا الشهر الكريم، فصلاة الليل مثلاً فرصة حقيقية للخلوة مع اللَّه، ولا ينبغي للمؤمن ان يفوت ساعات الليل في النوم أو الارتباطات الاجتماعية ويحرم نفسه من نصف ساعة ينفرد فيها مع ربه، بعد انتصاف الليل، وهو بداية وقت هذه الصلاة المستحبة العظيمة، وينبغي أن يخطط المؤمن لهذه الصلاة حتى تؤتي بأفضل ثمارها ونتائجها، فيؤديها وهو في نشاط وقوة، وليس مجرد إسقاط واجب أو مستحب، بل يكون غرضه منها تحقيق أهدافها قال عز وجل: ﴿وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودً﴾.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن العبد إذا تخلى بسيده في جوف الليل المظلم وناجاه اثبت اللَّه النور في قلبه.. ثم يقول جلا جلاله لملائكته: ملائكتي انظروا إلى عبدي فقد تخلى بي في جوف الليل المظلم والبطالون لاهون والغافلون نيام اشهدوا أني غفرت له).
وقراءة القران الكريم والتي ورد الحث عليها اكثر في هذا الشهر المبارك، فهو شهر القران يقول تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾وفي الحديث الشريف: (لكل شيء ربيع وربيع القرآن شهر رمضان) كما ورد أن (من تلا فيه آية كان له مثل من ختم القران في غيره من الشهور).
هذه القراءة إنما تخدم توجه الإنسان للانفتاح على ذاته ومكاشفتها وتلمس ثغراتها وأخطاءها، لكن ذلك مشروط بالتدبر في تلاوة القران والاهتمام بفهم معانيه، والنظر في مدى الالتزام بأوامر القران ونواهيه.
روي عن الإمام علي عليه السلام: (ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر، تدبروا آيات القران واعتبروا به فإنه ابلغ العبر).
إن البعض من الناس تعودوا أن يقرؤوا ختمات من القران في شهر رمضان، وهي عادة جيدة، لكن ينبغي أن لا يكون الهدف طي الصفحات دون استفادة أو تمعن.
وإذا ما قرأ الإنسان آية من الذكر الحكيم فينبغي أن يقف متسائلاً عن موقعه مما تقوله تلك الآية، ليفسح لها المجال للتأثير في قلبه، وللتغيير في سلوكه، ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، قيل: يا رسول اللَّه فما جلاؤها؟ قال: تلاوة القران).
وبذلك يعالج الإنسان أمراض نفسه وثغرات شخصيته فالقران ﴿شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ﴾.
والأدعية المأثورة في شهر رمضان كدعاء الافتتاح ودعاء السحر وأدعية الأيام والليالي كلها كنوز تربوية روحية، تبعث في الإنسان روح الجرأة على مصارحة ذاته، ومكاشفة نفسه، وتشحذ همته وإرادته للتغير والتطوير والتوبة عن الذنوب والأخطاء. كما تؤكد في نفسه عظمة الخالق وخطورة المصير، وتجعله أمام حقائق وجوده وواقعه دون حجاب.
وحينما يقرأ الإنسان دعاءً كدعاء السحر الذي رواه أبو حمزة الثمالي رضي اللَّه عنه عن الإمام زين العابدين عليه السلام، فإن عليه ان يعتبر فقرات الدعاء تعبيراً عما في نفسه هو، لا أن يقرأه كخطاب من شخص آخر لربه.
مجالات التأمل الذاتي:
إن حاجة الإنسان إلى التأمل والمراجعة لها أهمية قصوى في أبعاد ثلاثة:
البعد الأول: المراجعة الفكرية
أن يراجع الإنسان أفكاره وقناعاته ويتساءل عن مقدار الحق والصواب فيها، ولو أن الناس جميعاً راجعوا أفكارهم وانتماءاتهم لربما استطاعوا أن يغيروا الأخطاء والانحرافات فيها، غير أن لسان حال الكثير من الناس ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ وليكن الإنسان حراً مع نفسه قوياُ في ذاته إذا ما اكتشف أنه على خطأ ما، فلا يتهيب أو يتردد من التغيير والتصحيح.
البعد الثاني: المراجعة النفسية
أن يراجع الإنسان الصفات النفسية التي تنطوي عليها شخصيته فهل هو جبان أم شجاع؟ جرئ أم متردد؟ حازم أم لين؟ صادق أم كاذب؟ صريح أم ملتو؟ كسول أم نشيط؟.. الخ. وليطرح الإنسان على نفسه عدداً من الأسئلة التي تكشف عن هذا البعد، مثل: ماذا سأفعل لو قصدني فقير في بيتي؟ ماذا سأفعل لو عبث الأطفال بأثاث المنزل؟ ماذا سأفعل لو حدث أمامي حادث سير؟ وكيف سيكون رد فعلي لو أسيء إلي في مكان عام؟ وكيف اقرر لو تعارضت مصلحتي الشخصية مع المبدأ أو المصلحة العامة؟ وتأتي أهمية هذه المراجعة في أن الإنسان ينبغي أن يقرر بعدها أن يصلح من كل خلل نفسي عنده وأن يعمل على تطوير نفسه وتقديمها خطوات إلى الأمام.
البعد الثالث: المراجعة الاجتماعية والسلوكية
إن يراجع الإنسان سلوكه وتصرفاته مع الآخرين، بدءاً من زوجته وأطفاله، وانتهاءً بخدمه وعماله، مروراً بأرحامه وأصدقائه وسائر الناس ممن يتعامل معهم أو يرتبط بهم. وهذا الشهر الكريم هو خير مناسبة للارتقاء بالأداء الاجتماعي للمؤمن، ولتصفية كل الخلافات والحزازات الاجتماعية والعقد الشخصية بين الإنسان والآخرين، وقد حثت الروايات الكثيرة على ذلك، إلى حد أن بعض الروايات تصرح: بأن مغفرة اللَّه وعفوه عن الإنسان يبقى مجمداً فترة طويلة، حتى يزيل ما بينه وبين الآخرين من خلاف وتباعد، حتى وأن كانوا هم المخطئين في حقه، ففي حديث عن الإمام الرضا عليه السلام: (في أول ليلة من شهر رمضان يغل المردة من الشياطين ويغفر في كل ليلة سبعين ألفا فإذا كان في ليلة القدر غفر اللَّه بمثل ما غفر في رجب وشعبان وشهر رمضان إلى ذلك اليوم إلا رجل بينه وبين أخيه شحناء، فيقول عز وجل: انظروا هؤلاء حتى يصطلحوا) وحتى لو كان أحدهما ظالماً والآخر مظلوماً فإنهما معاً يتحملان إثم الهجران والقطيعة، إذ المظلوم منهما يتمكن من أن يبادر لأخيه بالتنازل وإزالة الخلاف، ففي الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام: (ما من مؤمنين اهتجرا فوق ثلاث إلا برئت منهما في الثالثة فقيل له: يا بن رسول اللَّه: هذا حال الظالم فما بال المظلوم؟ فقال عليه السلام: وما بال المظلوم لا يصير إلى الظالم فيقول: أنا الظالم حتى يصطلحا). فما أوضحها من دعوة للمصالحة الاجتماعية، وما أعظمها من نتيجة لو تحققت خلال هذا الشهر الكريم، وما اكبر منزلة تلك القلوب التي تستطيع أن تتسامى على خلافاتها وتتصالح في شهر اللَّه من أجل الحصول على غفران اللَّه؟ من هنا يحتاج الإنسان حقاً إلى قلب طاهر زكي ونية خير صادقة، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (فاسألوا اللَّه ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة).
فهنيئاً لمن يستفيد من أجواء هذا الشهر المبارك في الانفتاح على ذاته، وإصلاح أخطائه وعيوبه، وسد النواقص والثغرات في شخصيته، فيراجع أفكاره وأراءه ويدرسها بموضوعية، ويتأمل صفاته النفسية ليرى نقاط القوة والضعف فيها، ويتفحص سلوكه الاجتماعي من اجل بناء علاقات افضل مع المحيطين به.
وبهذه المراجعة والتراجع عن الأخطاء يتحقق غفران اللَّه تعالى للإنسان في شهر رمضان، أما إذا بقي الإنسان مسترسلاً سادراً في وضعه وحالته فإنه سيفوّت على نفسه هذه الفرصة العظيمة، وسينتهي شهر رمضان دون أن يترك بصمات التأثير في شخصيته وسلوكه، وبالتالي فقد حرم نفسه من غفران اللَّه تعالى، ويصدق عليه ما قاله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (أن الشقي من حرم غفران اللَّه في هذا الشهر العظيم). وحقاً إن من لا يستفيد من هذه الفرصة ولا يستثمر هذه الأجواء الطيبة يكون شقياً.
شهر رمضان وعادات خاطئة
شهر رمضان المبارك افضل منطقة زمنية يمر بها الإنسان خلال العام حيث اختصه اللَّه تعالى بالخير والفضل من بين سائر الأزمنة والأوقات، وجعل فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، واختاره ليكون مهبطاً لوحيه ورسالاته حيث أنزل فيه القرآن وقبل ذلك كان فيه نزول التوراة والإنجيل والزبور. ويكفي في فضل هذا الشهر ما ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: (سيد الشهور شهر رمضان). وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: (أيها الناس إنه قد أقبل إليكم شهر اللَّه بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند اللَّه أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة اللَّه، وجعلتم فيه من أهل كرامة اللَّه). ولتأكيد الخاصية ولتميزّ هذا الشهر الكريم فرض اللَّه صيامه على الناس ليعيشوا فيه جواً وبرنامجاً فريداً يساعدهم على الارتقاء لمكانة هذا الشهر ومقامه العظيم.
والصوم له فوائد ومنافع عظيمة فمن الناحية الصحية يتيح الصوم راحة فسيولوجية لأعضاء الجسم من عمليات هضم الغذاء، كما يعطي فرصة لاستهلاك المدخر منه، وطرح السموم المتراكمة فيه، وتنشيط عمليات الاستقلاب الحيوية، لذا يهتم الآن قسم من الأطباء بما يطلقون عليه (الصيام الطبي) ويقيمون له المصحات الطبية التي تعالج اضطراب الجسم وبعض أمراضه المزمنة، وقد صنفت حوله كتب علمية متداوله ككتاب (التداوي بالصوم) لمؤلفه (هـ.م.شيلتون) والذي ترجم إلى اللغة العربية ونشر عام 1987م من قبل دار الرشيد- دمشق/ بيروت.
وعلى الصعيد النفسي فإنه دورة تدريبية، لتربية الإنسان على التحكم في رغباته وشهواته، حيث يمتنع بقرار ذاتي عن الطعام والشراب وسائر المفطرات مع ميله إليها أو حاجته لها في بعض الأحيان.
واجتماعياً: يتحسس الإنسان من خلال الصوم جوع الفقراء والمعدمين، ويشعر بمعاناتهم وحاجتهم.
وروحياً: فإن التسامي على الرغبات والتفاعل مع الأجواء المباركة للشهر الكريم ينتج صفاءً روحياً وحيوية معنوية عالية.
لكن هذه الفوائد والمنافع وأمثالها إنما تتحقق مع الوعي بها والتوجه إليها، وإتاحة الفرصة لفريضة الصوم المباركة، ولأجواء رمضان الكريمة، أن تؤدي مفعولها، وتعطي آثارها دون معوقات أو حالات مضادة مناوئة.
وما يؤسف له هو نمو بعض العادات الخاطئة والحالات السلبية التي تجهض آثار الصوم وتقلل الاستفادة من بركات الشهر الكريم.
وهنا نسلط الأضواء على ظاهرتين سلبيتين تنتشران في أغلب أوساط الصائمين فتسبب حرمانهم من الاستفادة المطلوبة من عطاء هذا الشهر المبارك.
لا للكسل والخمول:
حينما يمتلك الإنسان وقتاً غالياً مهما فان عليه أن يقضيه في افضل الأعمال والبرامج، لا أن يضيعه في التوافه والأمور البسيطة. وشهر رمضان كأفضل وأغلى فترة زمنية تمر على الإنسان في العام ينبغي عليه أن يحرص على كل ساعة من ساعاته ولحظة من لحظاته، فكما ورد في كلام رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: (أيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات).
ومعنى ذلك أن يحفل شهر رمضان بأفضل البرامج وأحسن الأعمال، وأن يكون إنتاج الإنسان فيه أكثر وفاعليته أكبر.
لذا نرى التعاليم الإسلامية تقدم برامج مكثفة من الأعمال العبادية في شهر رمضان:
- فهناك أوراد وصلوات مستحبة كثيرة.
- وأدعية متنوعة لأيام وليالي هذا الشهر، يقول الإمام علي عليه السلام: (عليكم في شهر رمضان بكثرة الاستغفار والدعاء).
- وقراءة القرآن يستحب زيادتها ومضاعفتها، كما ورد في الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام: (لكل شيء ربيع، وربيع القرآن شهر رمضان).
وفي المجال الاجتماعي هناك توجيه ديني لتكثيف النشاط الاجتماعي في شهر رمضان كما نقرأ في خطب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا الشهر الكريم حيث يقول: (وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقروا كباركم، وارحموا صغاركم، وصلوا أرحامكم.. وتحننوا على أيتام الناس يتحنن على أيتامكم). (من فطّر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشهر كان له بذلك عند اللَّه عتق نسمة ومغفرة لما مضى من ذنوبه)، وفي حديث آخر: (من افطر صائماً فله مثل أجره). هذه الروايات وأمثالها تعنى أن تكون للإنسان برامج مكثفة خلال شهر رمضان في الجانب العبادي والمجال الاجتماعي، فتكون أوقات الإنسان فيه معمورة بالنشاط حافلة بالحركة. فهو شهر النشاط والحركة والعمل.
لكن ما تعوده الكثيرون في مجتمعاتنا هو اتخاذ هذا الشهر الكريم موسماً للخمول والكسل، حيث يتدنى فيه الأداء التعليمي في المدارس، والوظيفي في الدوائر والمؤسسات، ويقضي قسم كبير من الناس فيه النهار نوماً واسترخاءً، بحجة الصيام وكأن الصوم داع للكسل، أو بديل عن العمل فيوقف الإنسان حركته لكي يصوم، وتلحظ بعض التقارير انخفاض مستوى الإنتاجية العملية لدى قسم من المجتمعات الإسلامية في شهر رمضان.. وفي تاريخنا الإسلامي احتضن شهر رمضان المبارك الكثير من المعارك الفاصلة بين المسلمين والكفار، وسجّل المسلمون فيه أروع البطولات والانتصارات، فغزوة بدر الكبرى وقعت في أول شهر رمضان يفرض اللَّه صومه، في السنة الثانية للَّهجرة، وفتح مكة المكرمة حصل في شهر رمضان، للسنة الثامنة للَّهجرة، وفي شهر رمضان فتح المسلمون جزيرة (رودس) سنة 53هـ كما فتحوا ثغور الأندلس على يد موسى بن نصير عام 91هـ. وفيه انهزام الإفرنج المسيحيين الذين استولوا على سوريا وضواحيها، على أيدي جيوش المسلمين عام 584هـ.
وآباؤنا وأجدادنا كانوا يصومون شهر رمضان مع قيامهم بكل وظائفهم الحياتية، فما كانت الأعمال تتوقف في بلادنا فترة الصيام. فكيف حدثت هذه الظاهرة السلبية باستيلاء الخمول والكسل على الكثيرين نهار شهر رمضان؟
إن إحياء ليالي شهر رمضان بالعبادة وأعمال الخير شيء جيد لكن الكثيرين يسهرون الليل في جلسات فارغة أو ضمن برامج غير مفيدة يراد منها تمرير الوقت، ثم يقضون أغلب نهارهم نياماً على حساب الإنتاجية والعمل.
ومن الناحية الصحية فإن النوم فترة الصيام يضعف استفادة الجسم من الصوم، فقد ذكرت المراجع الطبية: أن الحركة العضلية في فترة ما بعد امتصاص الغذاء -أثناء الصوم- تنشط جميع عمليات الأكسدة لكل المركبات التي تمد الجسم بالطاقة، وتنشط عملية تحلل الدهون، كما تنشط أيضاً عملية تصنيع الجلوكوز بالكبد، من الجليسرول الناتج من تحلل الدهون في النسيج الشحمي، ومن اللاكتيت الناتج من أكسدة الجولكوز في العضلات. ويحتوي كتاب (الصيام معجزة علمية) للدكتور عبد الجواد الصاوي، على بحث علمي جميل حول هذا الموضوع تحت عنوان: (هل الأفضل في الصيام الحركة أم السكون؟)(15). مضافاً إلى ذلك فإن نوم النهار للصائم يشكل مصادرة لأغلب استهدافات الصوم. فهو لا يتحسس الجوع، ولا تستثيره الرغبة أو الشهوة، فكيف يصدق على الصائم النائم أنه يذوق مسّ الجوع فيشعر بمعاناة المعدمين، أو أنه يتعالى على شهواته ورغباته فتنمو عنده ملكة التقوى؟ وإذا كان الإنسان طوال السنة، يأكل ويشرب أثناء النهار، ويمتنع عن الأكل والشرب عند نومه في الليل، فإنه في هذه الحالة يعكس برنامجه، فيأكل ويشرب أثناء الليل ويمتنع عن الأكل وهو نائم في النهار فما الفرق إذاً؟
انطلاق شهوة الطعام:
من أجلى فوائد الصوم الظاهرة تربية الإنسان على التحكم في شهوة الطعام، ذلك أن هناك مستويين في تناول الإنسان للطعام. المستوى الأول: حاجة الجسم إلى الغذاء، لأنه مكوّن من ذرات عناصر الأرض: التراب والماء والهواء، وقد سخر اللَّه تعالى النبات والحيوان كغذاء للإنسان يمد جسمه بهذه العناصر والمركبات لتستمر حياته ونموه، ويكفي لتحقيق هذه الغرض مقدار محدود من الغذاء (حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه) كما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. المستوى الثاني: حالة الرغبة والشهوة، حيث يتلذد الإنسان بمذاقات الطعام، وتستهويه ألوانه المختلفة، فيأكل استجابة لهذه الرغبة، متجاوزاً حاجة جسمه، بل قد يأكل ما يضّر جسمه من حيث الكمية أو النوعية. وهنا يفترق الإنسان عن الحيوانات حيث ترتبط شهيتها بحاجة جسمها وللوظيفة التي سخرت لها، أما الإنسان فشهيته أوسع مدى من حاجته، فإذا استجاب لها واسترسل في الأكل والشرب، فان ذلك يسبب له العديد من الأمراض والأسقام. لذا يحذّر الطب من الإفراط في الطعام و عدم التوازن فيه، كما تشددّ على ذلك التعاليم الدينية، روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: (إياكم وفضول المطعم فإنه يسمّ القلب بالفضلة)، ويقول الإمام علي عليه السلام: (من كثر أكله قلّت صحته).
واغلب مشاكل الإنسان الصحية تأتيه من الاسترسال مع شهوة الطعام والشراب، وخاصة في هذا العصر الذي تتفنن فيه وسائل الدعاية والإعلام لتشجيع حالة الاستهلاك، وتسعى مصانع ومتاجر الأغذية، لإثارة رغبات الناس اكثر في ألوان المنتجات الغذائية، كما أن طبيعة الحياة عند الكثيرين لا تستلزم بذل جهد وحركة لتصريف الطاقة التي يوفرها الطعام للجسم. وتأتي فريضة الصوم لتلفت نظر الإنسان إلى ضرورة التحكم في طعامه وشرابه وضبط رغبته وشهيته، لكن المؤسف جداً هو ما يسود حياة اغلب مجتمعاتنا حيث ترتفع وتيرة الاستهلاك الغذائي في شهر رمضان، وحسب بعض التقارير الاقتصادية، فان استهلاك الدول الإسلامية من المواد الغذائية يزداد في شهر رمضان. فقد أصبح الشهر الكريم موسماً للأكل وانطلاق شهوة الطعام! وما أن يحين وقت الإفطار حتى يندفع الإنسان للمائدة بنهم وشره وكأنه ينتقم لبطنه من فترة صومه!!
انتشار السكري وأمراض القلب:
وفي مجتمعاتنا وحيث الوفرة الاقتصادية، والاسترسال مع الشهيّة والرغبة، أصبحنا نعاني من انتشار بعض الأمراض الخطيرة، التي تنتج غالباً من عدم التحكم في البرنامج الغذائي. فقد أعلن في مؤتمر السكر العالمي الذي انعقد مؤخراً بالقاهرة عن تصدر المملكة العربية السعودية لقائمة الدول التي ينتشر بها مرض السكري، بعد أن تم تشخيص 900 ألف حالة سكري بالمملكة أي ما يعادل 17% من جملة السكان. كما عقد أخيراً المجمع الطبي بالظهران مؤتمراً بعنوان (السكري.. آفاق مستقبلية)، أشارت بحوثه إلى مضاعفات مشاكل السكري الخطيرة كالفشل الكلوي والنوبات القلبية وبتر الأطراف. ففي عام واحد حصلت 13 ألف عملية بتر أعضاء في المملكة بسبب السكري، وفي الرياض وحدها تجري 36 عملية بتر أعضاء يومياً!! وهي نسب أعلى من المعدلات العالمية. ويشير التقرير السنوي الذي تصدره منظمة الصحة العالمية إلى أن معدل الزيادة السنوية لمرض السكر في المملكة نسبتها 4% أي أن 36 آلف شخص جديد كل عام يصابون بالسكري في المملكة!! والمنطقة الشرقية قد تكون هي الأولى في زيادة الإصابة بهذا المرض.
والى جانب مرض السكري يزداد انتشار أمراض القلب والتي تنشأ غالباً من زيادة نسبة الكلوسترول والدهون في جسم الإنسان. إن علينا أن نعيد النظر في برامجنا وعاداتنا الغذائية مع تغيّر نمط حياتنا ومعيشتنا، ولا يصح أبداً الاستجابة للرغبات والشهوات على حساب صحتنا ومستقبل حياتنا. وعلينا أن نسأل أنفسنا هل نحن نعيش لنأكل أم نأكل لنعيش، إذا كان الأكل من اجل الحياة فلنظبطه حسب مصلحة الحياة. وشهر رمضان ينبغي أن نتدرب فيه على الانضباط الغذائي، لنستفيد من فريضة الصوم العظيمة.
ليلة القدر: قرارات التحوّل والتغيير
يصف اللَّه تعالى ليلة القدر بأنها ﴿خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ وأنها ليلة التقدير ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ حيث تتقرر الأحداث والأقدار والقضايا المصيرية التي ترتبط بالإنسان والحياة في هذه الليلة من قبل اللَّه تعالى. فعن ابن عباس (إن اللَّه يقدر ما يكون في كل تلك السنة من مطر ورزق وإحياء وإماتة إلى مثل هذه الليلة من السنة الآتية)، وعن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام: (ليلة القدر يقدر اللَّه عز وجل فيها ما يكون من السنة إلى السنة، من حياة أو موت أو خير أو شر أو رزق). فليلة القدر إذاً ليلة التقدير الإلهي لما يجري على الناس في سنتهم القادمة، وليلة القرارات الإلهية الكبيرة، فلتكن -إذن- هذه الليلة ليلة القرارات الحاسمة عند الإنسان. فكم يكون التوافق مباركاً وذا قيمة عظيمة أن يوقت الإنسان لنفسه، أن يتخذ قراراته المصيرية والرئيسية، في تلك الليلة المباركة، التي جعلها اللَّه سبحانه وتعالى موعداً وميقاتاً لقدره الذي يقدره على الناس. ثم تأتي الأجواء الروحية العظيمة التي تكتنف هذه الليلة، لتزيد من حظوظ الإنسان في اتخاذ قرارات مصيرية صائبة موفقة. وليس من شك أن دائرة قرارات الإنسان في هذه الليلة المباركة، ينبغي أن تتسع بحيث تشمل كل ماله دور وتأثير في استقامته وصلاحه، وان تشمل طموحات الإنسان الدنيوية والأخروية، فيضع لنفسه مخططاً وبرنامجاً عملياً وسلوكياً يسير عليه في سنته القادمة.. ثم يعاهد اللَّه في تلك الليلة، بل وفي ليالي القدر المحتملة كلها، على أن يستمر في تطبيق ذلك البرنامج، ويطلب من اللَّه المدد والعون، وأن يجعل قضاءه وقدره جل وعلا موافقاً لإمنياته وطموحاته الخيرة.
فلسفة الاستغفار:
إن واحداً من أهم الأعمال في هذه الليلة هو الاستغفار، فقد ورد في مستحباتها أن يستغفر اللَّه سبعين مرة. وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال: (عليكم في شهر رمضان بكثرة الاستغفار والدعاء، فأما الدعاء فيدفع البلاء عنكم، وأما الاستغفار فتمحى به ذنوبكم)، ويندد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بمن يحرم نفسه من الحصول على مغفرة اللَّه في هذا الشهر العظيم بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الشقي من حرم غفران اللَّه في هذا الشهر العظيم)، ويقول صلى الله عليه وآله وسلم: (من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فأبعده اللَّه)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: (من لم يغفر له في شهر رمضان ففي أي شهر يغفر له). وليس رمضان سوى مدرسة روحية، ودورة تربوية يتخرج منها الإنسان وقد تخلق بخصال الخير والصلاح، ليمارسها في بقية سنته، من هنا فإن التوجهات الإسلامية بضرورة كثرة الاستغفار، تؤكد على أهمية ذلك في كل حياة الإنسان.. يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (اكثروا من الاستغفار فإن اللَّه عز وجل لم يعلمكم الاستغفار إلا وهو يريد أن يغفر لكم)، وقال الإمام الصادق عليه السلام: (كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يتوب إلى اللَّه في كل يوم سبعين مرة من غير ذنب). إن الاستغفار الحقيقي ليس هو مجرد قول (استغفر اللَّه) وتحريك اللسان بهذه الألفاظ، بل إن هذه الألفاظ ينبغي أن تكون شعاراً ظاهراً لقرار عميق الجذور في نفس المستغفر. إن صدقية الاستغفار -في الحقيقة- مرهونة باشتماله على خطوتين رئيسيتين هامتين:
الأولى: اكتشاف الخطأ، والإقرار بوجوده، وأنه خطأ لا يجوز الاستمرار عليه.
الثانية: التصميم على الإقلاع عنه والتخلص منه.
فإذا ما عرفت الخطأ وشخصته، ثم صممت على تجاوزه والإقلاع عنه، فتعلن حينئذ عن قرارك القلبي ذلك، بلسانك وتقول: (استغفر اللَّه ربي وأتوب إليه). إن الاستغفار بهذا المعنى يتحول من ذكر مجرد، إلى نقلة نوعية نحو واقع أفضل وأصوب، ويصبح دواءً لأمراض الإنسان وعللَّه يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا أدلكم على دائكم ودوائكم؟ ألا إن داءكم الذنوب ودواؤكم الاستغفار). ولو سألنا رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أي نوع من الاستغفار هذا الذي تصفه لنا دواءً يا رسول اللَّه؟ لقال كما في الحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم: (خير الاستغفار عند اللَّه الإقلاع والندم). أما إذا كان الاستغفار مجرد تحريك اللسان، ولا يكشف عن أي تصميم داخلي للإقلاع عن الذنب، فإنه - والحال هذه - يتحول إلى ذنب يؤاخذ عليه الإنسان، وما أبلغ قول الإمام علي عليه السلام في الإشارة إلى هذه الحقيقة: (الاستغفار مع الإصرار ذنوب مجددة) ذلك أن هذا الاستغفار عبارة عن وعد قولي قاطع مع عزم داخلي على عدم الوفاء به، واللَّه تعالى مطلع على ما في نفسك. ويقول الإمام علي الرضا عليه السلام في كلمة رائعة: (من استغفر بلسانه ولم يندم بقلبه فقد استهزأ بنفسه)، ويقول عليه السلام في حديث آخر: (المستغفر من ذنب ويفعله كالمستهزئ بربه).
قرار التحّول والتغيير:
إن كل إنسان معرض للخطأ ولا ينجو من الوقوع فيه إلا من عصم اللَّه يقول تعالى: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ والتوفيق هو أن يتنبه الإنسان لنفسه أنه يسير على خطأ ما، أو أنه لم يتوفق بعد للوصول إلى كمال من الكمالات السامية، وهذه هي بداية التوفيق الإلهي حيث هي نقطة التحول نحو الهداية. يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (إن كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون). وهنا يحتاج الإنسان أن يقوم بمكاشفة صريحة مع نفسه من أجل تصحيح الخطأ، ويتساءل كيف أتمكن من الإقلاع عن ذنوبي وكيف أستطيع أن أغير أخطائي ونواقصي. وتزداد أهمية المكاشفة، وضخامة المهمة كلما كان الخطأ قد تحول إلى عادة ذلك لأن (العادة طبع ثان)، (وللعادة على كل إنسان سلطان)، وبذلك تتحول العادة إلى خصم غالب على الإنسان (العادات قاهرات) كما في تعابير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. والاستغفار تصميم على تغيير السلوكيات الخاطئه وان تحولت إلى عادة ألفها الإنسان فترة طويلة. ولعل في الأمر شيئاً من الصعوبة، ولكن ما أعطاه اللَّه للإنسان من إرادة وعزم، وعقل وقدرة على الاختيار، كل ذلك يتيح للإنسان التغلب على نواقصه وأخطائه. صحيح أن التوفيق الإلهي لا بد من حصوله حتى يتمكن الإنسان من التغيير، ولكن التوفيق تابع لإرادة الإنسان واختياره، فالذين يختارون الصلاح بإرادتهم أولاً يوفقهم اللَّه للصلاح. ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَ﴾، ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ﴾. أما الذين لم يختاروا الـهداية فإن اللَّه لا يهديهم ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾.
إن هداية اللَّه للإنسان تعقب اختيار الإنسان لها.. كما لا يصح للإنسان أن يحتج بتحكم عادته منه، لأن بإمكانه أن يستخدم سلاح الإرادة ضد عادته. لقد استخدم المسلمون الأوائل إرداتهم وتخلصوا من الشرك واعتنقوا الإسلام، رغم أن عادات الشرك كانت قد تحكمت فيهم، وأصبحت جزءاً لا ينفك من حياتهم. وهؤلاء الذين يدخلون الإسلام حديثاً كيف يستطيعون أن يتخلصوا من عاداتهم المشابهة؟! وقد نقلت جريدة الشرق الأوسط قبل أيام تقريراً عن خواطر بعض المسلمين الذين أسلموا حديثاً، وكان من بينهم السفير الألماني السابق الدكتور (مراد هوفمان) ذكر فيه: أنه كان مولعاً بشرب الخمر وكان خبيراً بأنواعه المختلفة، وكان يتصور ان من الصعب عليه جداً أن يترك الخمر وأنه لن يستطيع أن ينام جيداً دون جرعة من الخمر!! ولكنه حينما اقتنع بالإسلام والتزم بأوامره، تسلح بالإرادة وتغلب على تلك العادة الخاطئة المتأصلة في حياته. إن أهمية استحضار هذا المعنى الكبير للاستغفار في شهر رمضان خصوصاً، وفي هذه الليالي الأواخر منه تحديداً لأن الفرصة الآن لا تزال مؤاتية لاستمطار بركات اللَّه والحصول على عونه في تحقيق الأغراض والأهداف الحقيقة للإنسان خلال هذا الشهر الكريم.
قوة الدعاء:
والأدعية التي يقرأها المؤمن في هذا الشهر الكريم ليست هي بذاتها -كما يظن البعض- العلة التامة لحصول المغفرة، بل إنها وسيلة لتذكير الإنسان، وصرخة لدفعه، وأرضية روحية تهيؤه للتغيير والتحول، فإن كان ثمة خطأ يحتاج إلى التغيير فليكن قرارك الآن بتغييره.
فمثلاً: كيف تتعامل مع أداء الصلاة؟ هل تؤديها لوقتها أم تتساهل فيها؟
وهل تواظب على صلاة الجماعة أم لا؟
وإذا كنت مستطيعاً للحج فكيف يجب أن تصل إلى قرار بالحج؟!
وماذا عن أداء الحقوق الشرعية كالخمس والزكاة؟ إذا كنت لم تحاسب نفسك لأداء الخمس فلتتخذ قرارك هذه الليالي، لتكون أموالك طاهرة، وأكلك وشربك حلالاً، وبيتك الذي تصلى فيه وثياب صلاتك لتكن مباحة فذلك شرط لصحة الصلاة، ولا يتم كل ذلك إذا لم تؤد الحقوق الشرعية.
وفي الجانب السلوكي كيف هو تعاملك مع عائلتك؟ هل أنت قائم بواجباتك تجاه والديك وزوجتك وأولادك؟ وأين هو مجال التقصير والنقص؟
وفي العلاقات الاجتماعية هل لديك عداء مع أحد؟ ولماذا تستمر في العداء مع آخرين من أبناء مجتمعك؟
وحتى في العادات الشخصية كالتدخين والعادات غير المناسبة صحياً أو اقتصادياً، عليك أن تتحلى بالشجاعة لاتخاذ قرارات التغيير والتحول تجاهها.
صعوبة القرار:
إن تلاوة القرآن وقراءة الأدعية المأثورة، والوعي بقيمة الزمن المبارك كليلة القدر، كل ذلك يحفز إرادة الإنسان، ويستنهض شجاعته، ويستثير ثقته بنفسه، ليتخذ القرارات الصعبة التي يغيّر بها، الخطأ من عاداته وممارساته.
كما أن للأجواء المحيطة بالإنسان أن كانت صالحة أثراً كبيراً في مساعدته على التحّول إلى الخير والصلاح. وعلى العكس من ذلك لو كان ضمن أجواء سلبية فاسدة، فليكن قراره الأول هو مغادرتها والتخلص منها.
نرجو أن يوفق اللَّه الجميع لاغتنام فرصة هذه الليالي المباركة لاتخاذ القرارات التغييرية نحو الأفضل، ولو اتخذ كل إنسان منا ولو قراراً واحداً صالحاً، والتزم به طوال السنة لأدركنا خيراً كثيراً.
إن البعض قد يقرر ولكنه يضعف ويتراجع عند التنفيذ، والبعض يلتزم بقراره لفترة ثم يتساهل ويميّع قراره، وهذا يكشف أنه لا يحترم نفسه ولا يقدّر التزاماته تجاهها.
يقول الإمام الصادق عليه السلام: (من عمل عملاً من أعمال الخير فليدم عليه سنة ولا يقطعه دونها).
في عيد المحبة والصفاء لا للخصومات
تعكّر الخصومات صفو حياة الأفراد، وتزوّر من اهتمامات المجتمع، وتزّيف من توجهاته.
حيث تستهلك الخصومة جانباً كبيراً من اهتمام الإنسان، وتستنـزف الكثير من طاقته، فيصرف فيها جهداً، ويبذل من أجل تسجيل الانتصار فيها فكراً وعصباً، كان الأجدر به أن يوجهه للبناء والتنمية والرقي نحو الخير..وكلما تخلصت المجتمعات من سطوة الخصومات وأزمة النزاعات استطاعت أن تركز جهودها من أجل تحقيق المصلحة الإيجابية العامة والهدف الأكبر النبيل.
أرضية الخصومة:
والخصومة قد يكون سببها الاعتداء على الحقوق أو وهم الاعتداء..
فإذا ما اعتدى طرف ما على حقوق الآخرين فإن ذلك سيحّرض عندهم غريزة الدفاع عن النفس لرد الاعتداء، والإسلام يؤكد على احترام حقوق الآخرين المادية والمعنوية، ويحّرم بشدة أي اعتداء أو جور، وإذا ما حصلت إساءة أو اعتداء بين أبناء المجتمع فإنه يشجع على العفو والتسامح ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾. ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: (تعافوا تسقط الضغائن بينكم).
وتارة يكون سبب الخصومة مجرد الوهم بأن الطرف الآخر قد اعتدى، أو أنه ربما يقوم باعتداء في المستقبل، مما يدخل تحت عنوان سؤ الظن بالآخرين، أو الشعور بالحسد من موقعيتهم، والغيرة على الذات منهم يقول الإمام علي عليه السلام: (سوء الظن يفسد الأمور ويبعث على الشرور)، (من غلب عليه سؤ الظن لم يترك بينه وبين خليل صلحاً). ويمكن تصنيف الخصومات والعداوات إلى نوعين:
- خصومات دينية.
- خصومات مصلحية لنزاع على مال أو موقع أو لذة. وقد حوت سجلات التاريخ أحداثاً داميةً جرت بسبب خلاف ديني عقائدي، وان كان في الكثير من الأحيان يخفي تحته خلافاً مصلحياً مادياً، ويكون الدين مجرد واجهة أو عنوان أو سلاح في المعركة.
الخصومة في الدين:
هل في الدين ما يبرر الخصومة وبعبارة أخرى، هل يجوز لمن يختلفون لأسباب دينية عقائدية أن يعبروا عن اختلافاتهم تلك بالحروب والمعارك؟ في الحقيقة أننا حينما نتتبع أحكام الشريعة نجد أنه لا يوجد ما يبرر الخصومة في الدين على الإطلاق وذلك:
أولاً: إن الدين شأن قلبي ولا يمكن إخضاع الناس لعقيدة ما، ما لم يقتنعوا بها. ولقد خلق اللَّه الناس أحراراً ولم يجبرهم حتى على الإيمان به، ولم يخوّل حتى الأنبياء والرسل أن يفرضـوا على الناس الإيمان ﴿لاَ إِكـْرَاهَ فِي الـدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشـْدُ مِنْ الغَيِّ﴾. ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ.لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾. ﴿وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾.
ثانياً: أن الخيار الوحيد المتاح للإنسان من أجل إقناع الغير بما يعتقد به هو ويراه صحيحاً هو الحوار والمجادلة، أما العداوة والمخاصمة فإنها ليست عاجزة عن إقناع الطرف الآخر فحسب، بل ومن شأنها أن تحوله الى عدو لدود، وعندما تنعكس المعادلة تنعكس النتيجة ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾. ويؤكد القرآن الكريم على أن الجدال والنقاش مع أهل الكتاب إما أن يكون بالتي هي أحسن، أو لا يكون أصلاً ﴿وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾. ويقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾.
ثالثاً: إذا كان يجوز لك أن تعادي الناس وتخاصمهم لأنهم تمسكوا بقناعاتهم دون قناعتك، فإن ذلك يعني أن لهم نفس الحق في التعامل معك بنفس الأسلوب، والحال انك لا تقبل بذلك، وتود لو أن الناس يحترمون عقيدتك وقناعاتك، وما دمت كذلك فـ (عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به). ويقول الإمام علي عليه السلام: (اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك أحبب لغيرك ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لها). وتأسيساً على هذه الحقائق فان الإسلام لم يشرع الجهاد والحرب مع الكفار إلا في حالة الدفاع، إذا ما قاموا بالاعتداء على المسلمين، أو في حالة صدهم وتعويقهم لنشر الإسلام والدعوة إليه. وفي غير ذلك فإن الإسلام يدعو إلى حسن التعامل مع الآخرين يقول تعالى: ﴿لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾.
في الدائرة الإسلامية:
وإذا كانت الخصومة مع أصحاب الديانات الأخرى مرفوضة، فهي مع أصحاب المذاهب الأخرى في الدين الواحد أولى بالرفض..
حيث ينطبق عنوان الإسلام على جميع المسلمين و (كل المسلم على المسلم حرام ماله ودمه وعرضه).
بل المطلوب من أصحاب كل مذهب أن ينفتحوا على المذاهب الأخرى، وقد أدب أئمة أهل البيت عليهم السلام تلامذتهم على ذلك.
عن معاوية بن وهب قلت للإمام جعفر الصادق عليه السلام: (كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خلطائنا من الناس ممن ليسوا على أمرنا؟ قال: تنظرون إلى أئمتكم الذين تقتدون بهم فتصنعون ما يصنعون فواللَّه إنهم ليعودون مرضاهم ويشهدون جنائزهم ويقيمون الشهادة لهم وعليهم ويؤدون الأمانة إليهم).
والدائرة الأضيق ضمن الدائرة الإسلامية هي الدائرة المذهبية، حيث قد تتعدد المدارس والتوجهات ضمن المذهب الواحد، ففي المذهب الجعفري مثلاً هناك التمايز بين الأخباريين والأصوليين في مناهج الاستنباط، وهناك الاختلاف بين الشيخية وغيرهم في بعض الآراء المرتبطة بمقام أهل البيت عليهم السلام. ثم هناك الانتماءات السياسية والاجتماعية وتعدد مراجع التقليد.
لكن هذا الاختلاف والتمايز لا يصح أبداً أن يكون مبرراً للخصومة والعداء بين أبناء المذهب الواحد والدين الواحد.
إن المجتمع حينما يكون ملتزماً بالآداب الإسلامية ومدركاً لضرر الخصومة عليه، وحينما يكون ناضجاً في تعامله مع تكاليفه الشرعية، فإنه سوف يحوّل كل مسألة مختلف عليها علميا إلى نقطة قوة تضاف الى رصيده، لا عنصر تفجير وأزمة.
وأمامنا نموذج الاختلاف في إثبات الهلال، وهي مسألة أضحت هذه الأيام مثار اهتمام الشعوب المسلمة كلها، حيث من الممكن جداً أن تعلن العيد بعض الدول الإسلامية في يوم والدول الإسلامية الأخرى في يوم آخر..
وحتى داخل المذهب الواحد يمكن أن يختلف الرأي حول ثبوت الهلال أو عدم ثبوته.
فهل يصح أن يكون مثل هذا الاختلاف سبباً لخصومة أو نزاع داخل المجتمع؟
نظرة فقهية:
ولكي نعالج الموضوع من زاويته الفقهية، لا بد لنا من ذكر مقدمة.. وهي أن المكلف أمامه خطاب تكليفي واضح بالصوم في حالة عدم ثبوت هلال شوال، والإفطار في حالة ثبوته، وما لم يحصل له الاطمئنان بثبوت الهلال فلا يجوز له الإفطار بل عليه إكمال عدة الشهر ثلاثين يوماً. أما الاطمئنان فإنه يحصل بأحد الطرق الشرعية -المذكورة في الكتب الفقهية، وهي أن يرى الهلال بنفسه أو يشهد عادلان أو يحصل شياع وتواتر. وبما أن الحكم دائر مدار الاطمئنان عبر أحد الطرق المزبورة، فمن أيها حصل وجب على المكلف ترتيب الأثر عليه. وحيث إن أكثرية المكلفين لا يرون الهلال غالباً، كما أنه ليس من الميسور لكل أحد أن يستمع إلى شهادة عادلين برؤيته، وقد لا يحصل الشياع في حالات كثيرة، لكل ذلك اعتاد الناس على الركون إلى رأي العلماء المتصدين لهذه القضية، والذين هم موضع ثقتهم واطمئنانهم، وإذا ما أثبته عالم يُطمئن بالتزامه بالضوابط اللازمة، فإن الناس الواثقين به يرتبون الأثر العملي على كلامه.. وهنا يجب التأكيد على قضيتين هامتين جداً..
أولاً: حينما يرتب كل مكلف الأثر الشرعي الناشئ من اطمئنانه أو عدمه فلا يجوز في حالة الاختلاف أن يعادي هذا ذاك أو العكس، لأن كلا من الطرفين قد عمل بتكليفه الشرعي، والالتزام بالحكم الشرعي في مسألة لا يجوز أن يكون سبباً للخصام، فلو استضاف إنسان شخصاً مسافراً في بيته وصلى المسافر قصراً فلا يجوز لصاحب البيت أن يعاديه لذلك!! ولو اختلف جماعة في تحديد جهة القبلة، وصلى كل منهم إلى الجهة التي يعتقد أو يظن أنها القبلة، فلا يجوز أن يكون ذلك سبباً للخصومة. نعم يمكن لكل منهم أن يبين سبب تمسكه بهذا الرأي دون ذاك، مع مراعاة أدب الحوار وفقه الاختلاف.
ثانياً: إن اعتماد الناس على آراء العلماء في إثبات الهلال أو عدمه لأنهم أقدر على تطبيق الموازين الشرعية، غير أن ذلك لا يصح أن يكون دافعاً لتحويل عملية إثبات الهلال أو نفيه إلى حالة فئوية، تذهب فيه كل فئة إلى رأي العالم الذي تميل إليه، مع غض النظر عن أقوال بقية العلماء.. وهذا لا يمكن أن يتم إلا إذا كان ذلك العالم هو الوحيد في نظرهم الذي يمكن أن يورث رأيه الاطمئنان أمّا غيره من العلماء فلا قيمة لكلامهم. إنه لا يصح تحويل هذه المسألة الشرعية إلى قضية فئوية، فإذا ما حصل الاطمئنان للمكلف بهلال شوال من إثبات أي عالم موثوق لديه، فيجب عليه أن يرتب الأثر على ذلك، وإذا لم يحصل له الاطمئنان بثبوته فلا يرتب الأثر ولو كان من أثبته مرجع تقليده، فليس هناك ارتباط بين مرجع التقليد والمكلف في هذه القضية الموضوعية، فقد يطمئن المكلف بأحد الطرق الشرعية فيفطر بينما يكون مرجعه صائماً وبالعكس اللَّهم الأعلى مبنى نفوذ حكم الحاكم الشرعي إذا لم يعلم خطأ مستنده. وإذا ما انطلق كل مكلف من التزامه الشرعي فإنه يجب أن يقدر التزامات الآخرين أيضاً ويحسن الظن بهم.
عيد المحبة والصفاء:
إن من المفروض أن نعمل جميعاً ليكون العيد مناسبة لنشر أجواء المحبة والصفاء، وتعميق المودة والإخاء بين المؤمنين والمسلمين. لذا من المهم الالتفات إلى الأمور التالية:
1- الاهتمام بموضوع الاستهلال فهو سنّة ينبغي المواظبة عليها فكلما ازداد عدد المستهلين كانت فرص رؤية الهلال اكبر في الليلة المحتملة.
2- أن يدلي من رأى الهلال بشهادته عند كل العلماء المتصدين في بلده ولا يقتصر على الذهاب لبعضهم دون البعض، ليكون جميع العلماء المتصدين في جو متقارب يساعد على وحدة الموقف.
3- أن ندفع ونشجع باتجاه أن يلتقي العلماء المتصدين لإثبات الهلال مع بعضهم ويتشاوروا فيما بينهم لاتخاذ موقف موحد يريح الناس من عناء الاختلاف.
4- أن تحترم كل جهة رأي الجهة الأخرى عند الاختلاف في ثبوت الهلال فمن افطر أو صام فذلك تكليفه الشرعي بينه وبين ربه، ولا يصح اتهام النوايا، ولا إساءة الظن، ولا الاعتداء على حقوق الآخرين وتشويه سمعتهم، أو التهريج ضدهم.
5- أن ننشر ثقافة التسامح، وتعاليم الإسلام في حسن العشرة والتعامل مع الناس وإن اختلفوا في أديانهم ومذاهبهم وآرائهم وانتماءاتهم، فهناك أحاديث عديدة وردت عن الأئمة الطاهرين عليهم السلام تنهى عن الخصومة في الدين، ولا أدري لماذا نتجاهل هذه الأحاديث ولا نتداولها مع حاجة الساحة إليها.؟؟
فعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (فلا تخاصموا الناس لدينكم فإن المخاصمة ممرضة للقلب). وعنه أيضاً عليه السلام: (إياكم والخصومة في الدين فإنها تشغل القلب عن ذكر اللَّه عز وجل وتورث النفاق وتكسب الضغائن). وعن علي بن يقطين قال: قال أبو الحسن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام: (مر أصحابك أن يكفوا من ألسنتهم ويدعوا الخصومة في الدين ويجتهدوا في عبادة اللَّه عز وجل). وفي هذه الروايات إشارة إلى مضاعفات الخصومة في الدين فهي:
أ - تؤذي الإنسان نفسياً (ممرضة للقلب).
ب- تسبب الأحقاد والعدوات في المجتمع (تكسب الضغائن).
جـ- تشغل الإنسان عن الاهتمامات الحقيقية (تشغل القلب عن ذكر اللَّه).
* شهر رمضان والانفتاح على الذات / الشيخ حسن الصفار. |