الدعاء وسيلة النجاة
روحانية الدعاء
بغض النظر عن أجر الدعاء
وثوابه، أو الاستجابة التي ينشدها فإن الدعاء إذا تجاوز اللسان والألفاظ، وتناغم
القلب مع اللسان، واهتزت روح الإنسان مع هذا الدعاء، فسوف يشعر الإنسان بروحانية
مقدسة هائلة،كما لو رأى نفسه غريقًا (في أمواج النور، يحس في تلك اللحظات بقداسة
الطبيعة الإنسانية، ويدرك جيدًا، كيف كان منحطًا غبيًا في اللحظات الأخرى التي يشغل
نفسه فيها، بالأشياء والهموم الصغيرة، والتافهة، حيث يقلق من أجلها ويتألم، ان
الإنسان يحس بالذل، حين يطلب شيئًا (من غير الله، ولكن حين يطلبه من الله فسيشعر
بالعزة لذلك كان الدعاء طلبًا ومطلوبًا، وسيلة وغاية، مقدمة ونتيجة، وأولياء الله
لا يتلذذون بشيء كالدعاء، فإنهم يكشفون لدي محبوبهم الحقيقي كل طموحات وآمال قلوبهم
ويهمهم الدعاء نفسه، والطلب والاحتياج أكثر مما تهمهم مطالبهم، وتحقيق آمالهم لا
يشعرون بالملل والتعب أبدًا في تلك اللحظات كما يشير لذلك الإمام أمير المؤمنين
عليه السلام في خطابه لكميل النخعي. (هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشرو روح
اليقين، استلانوا ما استوعره المترفون، وآنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا
الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى) على العكس من القلوب الموحلة المغلقة،
والمظلمة التي تباعدت عن ذلك المحل الأعلى.
طريق من القلب لله:
في قلب كل أحد طريق لله،
وباب توصله إليه، حتى أكثر البشر شقاءً وانحطاطًا و (عصيانًا)، فإنه في ساعات المحن
والشدائد، حين تضيق بوجهه الدنيا، وتغلق جميع الأبواب، وتسد كل الدروب، يهتز كل
وجوده، ثم يلتجيء إلى الله، وهذه الحالة من الميول الفطرية الطبيعية المودعة في
كيان الإنسان، ولكن تسترها أحيانًا، حجب المعاصي وركام الذنوب، ولكن في المحن
والأزمات تتكشف هذه الحجب والستائر، قليلاً، ويتحرك ذلك الميل الفطري، ويتدفق. سئل
الصادق عليه السلام عن الله تعالى، فقال للسائل: (يا عبد الله هل ركبت سفينة قط؟
قال: بلى، قال: فهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟ قال: بلى، قال:
فهل تعلق قلبك هناك أن شيئًا من الأشياء قادر أن يخلصك من ورطتك؟ قال:بلى، قال عليه
السلام: فذاك الشيء هو الله القادر على الانجاء حيث لا منجٍ، وعلى الإغاثة حيث لا
مغيث). أجل لقد عرفه الإمام عليه السلام على الله تعالى بواسطة قلبه (وفي أنفسكم
أفلا تبصرون) هذا الميل والدافع الكامن في فطرة الإنسان والذي يدفعه، حين تغلق
بوجهه أبواب الدنيا إلى تلك القدرة الغالية القاهرة، التي هي فوق الأسباب والقوى
الظاهرية، دليل على وجود هذه القدرة، وإذا لم يكن لهذه القدرة وجود، لم يكن لهذا
الميل الفطري وجود أيضًا. وبالطبع هناك فرق بين وجود هذا الميل في الإنسان، وبين
تعرف الإنسان على ذلك الميل، وأهدافه، بصورة كاملة. فالميل والرغبة لشرب الحليب،
موجود في الطفل منذ ولادته، وحين يجوع، ويلح عليه هذا الاحتياج، يتحرك هذا الميل
ويهيج، ويوجه الطفل إلى البحث عن الثدي الذي لم يشاهده ولم يعرفه، ولم يأنس به،
وذلك الميل هو الذي يهديه، ويدفعه، ليفتح فمه، ويفحص، وإذا لم يعثر على ضالته، فإنه
يبكي، والبكاء بنفسه يعني طلب المعونة من الأم، تلك الأم لم يعرفها بعد، ولكن الطفل
هل يعرف هدف الميل هذا، وهدف البكاء، ولماذا وجد هذا الميل والدافع فيه، لا يعلم
بأنه يملك الجهاز الهضمي، وبأن هذا الجهاز يطالب بالمواد الغذائية. هو لا يدري
لماذا يريد ويطالب؟ ولا يعلم بأن فلسفة البكاء أخبار الأم بحالته، تلك الأم التي لم
يكن قد عرفها بعد، والتي سيتعرف عليها بالتدريج، ومن جملة ميولنا، ونزعاتنا
الإنسانية السامية، الرغبة في معرفة الله، الميل للدعاء، والالتجاء لله، الذي لم
نشاهده، تمامًا، كذلك الطفل، الذي خرج جديدًا للحياة بالنسبة للثدي الذي لم يشاهده
ولم يعرفه، والأم التي لم يشاهدها ولم يعرفها. وبطبيعة الحال، لو لم يوجد الثدي
والحليب الملائم لذلك الطفل. فإن الغريزة لا توجه الطفل باتجاه ذلك، فهناك علاقة
وثيقة بين ذلك الميل وبين الغذاء وكذلك الأمر في سائر الميول البشرية، فلم يودع أي
ميل عبثًا، في وجود الإنسان، بل أن كل الرغبات والميول خلقت وفق الحاجات، ولأجل
إشباع الحاجات.
الانقطاع الاضطراري و الانقطاع الاختياري
يمكن للإنسان أن يدعو الله في حالتين:
الأولى: حين تنقطع كل الأسباب، وتغلق كل دروب الخلاص بوجهه ويصبح مضطرًا للالتجاء
لله.
الثانية: حين تتعالى وتسمو روحه، فسوف ينتزع نفسه، ويقطعها عن كل الأسباب والوسائل
وبإرادته، لا أنه مضطر لذلك كالحالة الأولى.
وفي الحالة الأولى: حالة الاضطرار وانقطاع الأسباب بنفسها، يندفع الإنسان لله،
مقهورًا ولا يحتاج لدعوة خاصة، ومن الواضح أن هذه الحالة، لا تعد كمالاً للنفس
الإنسانية، ولكن الحالة الثانية كمال للنفس، حيث يسمو الإنسان باختياره، ويقطعها
بإرادته عن كل الأسباب.
شروط الدعاء:
1- الرغبة والطلب الجدي:
الشرط الأول: أن تتملك وجود الإنسان الرغبة والطلب الجدي، حيث تصبح كل شرائح
وجوده وخلاياه معبرة عن طلبه، ويتحول ما يريده، ويرغب فيه، إلى حاجة حقيقية، كما لو
تعرض موضع من البدن، للاحتياج فإن جميع أعضاء البدن وجوارحه. سوف تبدأ بالعمل،
وربما تزيد بعض الأعضاء من فعاليتها، من أجل أن تشبع حاجة ذلك الموضع، فلو شعر
الإنسان بالعطش، فإن ملامح عطشه ستبدو عليه، واضحة، وتهتف أعضاؤه كلها طالبة،
الماء: الفم، والكبد، والمعدة، والشفة، واللسان، وحتى لو نام في تلك اللحظات فسوف
يلوح الماء له في نومه، لأن البدن يحتاج ويطالب بالماء جديًا، وهذا تمامًا
كالاحتياج الروحي والمعنوي في الإنسان، الذي هو جزء من عالم الخليقة والتكوين، الذي
يشمل العالم كله، أن الروح الإنسانية جزء من عالم من الوجود، فلو افتقرت لشيء ما،
بصورة جدية وحقيقية، فإن جهاز الكون الكبير، لا يهملها، ولا يدعها لشأنها. وهناك
فرق كبير بين تلاوة الدعاء والدعاء الحقيقي، فإذا لم يواكب قلبه لسانه، ولم ينسجم
معه، فلا يعد ما يدعو به، دعاء حقيقيًا وجديًا، فلا بد أن ينبثق الطلب والاحتياج،
ويتدفق من أعماق الإنسان، بصورة جدية وحقيقية، لا بد أن يبدو الاحتياج الحقيقي في
كيان الإنسان كله.....
(أن كل ما يظهر في الوجود، يبحث هنا وهناك حول ما يحتاجه، حتى يعثر على الطالب
له:
ان من يبحث عن شيء، سيعثر عليه في النهاية، وما يبذله الإنسان ويتحمله في هذا
السبيل، وإن كان مجهدًا، ومضنيًا، ولكنه رحمة في الواقع.
أن الجواب يتجه للمشكلات، والماء يتجه للموضع المنخفض.
لا تبحث عن الماء، بل دع نفسك تظمأ، فحينئذ سيصل إليك الماء من كل جانب.
(أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء)
2_ الثقة بالاستجابة:
وتعني الإيمان واليقين، الإيمان بالرحمة اللامتناهية لذات الباري، الإيمان بأنه
تعالى لا يمنع من فيضه أبدا ولا يبخل به على أحد، الايمان بأن باب الرحمة الإلهية
لا تغلق على عبد أبدًا، وإن النقص والقصور _ إذا كان _ فهو من جانب العبد نفسه، وفي
الحديث (إذا دعوت فظن حاجتك بالباب) والإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه
السلام في الدعاء المعروف بأبي حمزة الثمالي، يخاطب الله تعالى: (اللهم إني أجد سبل
المطالب إليك مشرعة، ومناهل الرجاء لديك مترعة، والاستعانة بفضلك لمن أملك مباحة،
وأبواب الدعاء إليك للصارخين مفتوحة، وأعلم أنك للراجين بموضع إجابة، وللملهوفين
بمرصد إغاثة وإن في اللهف إلى جودك والرضا بقضائك عوضا عن منع الباخلين، ومندوحة
عما في أيدي المستأثرين، وان الراحل إليك قريب المسافة وأنك لا تحجب عن خلقك إلا أن
تحجبهم الآمال دونك.
يقول حافظ: الشاعر الفارسي:
(إنما يمكنك النظر لسر الدنيا، حين يمكنك أن تصنع من تراب الحانة كحلاً لبصرك.
إنما يكشف مرادك النقاب عن وجهه الوردي، حين يمكنك أن تخدمه كنسيم السحر.
إن الاستجداء على أبواب الحانة، حفنة من الإكسير، إذا مارسته، سيمكنك أن تصنع من
التراب ذهبًا.
تقدم وامض إلى الأمام، في طريق العشق والحب، بكل عزيمة وثبات، فإنك ستجني الكثير من
الفوائد، لو أمكنك هذا السفر.
أنت.... الذي لا تخرج نفسك عن مدار الطبيعة، فكيف يمكنك أن تطوي مراحل الطريقة
وتجتازها.
ليس لجمال الحبيب نقاب، ولكن حاول إزالة الغبار عن الطريق ليمكنك النظر.
تعال..... فلا سبيل لك، للذوق، والحضور ونظم الأمور، إلا إذا أمكنك الاستفادة من
فيوضات أهل النظر.
ولكن..... أنت الذي تحلم بشفاه الحبيب، وكأس الخمر، لا تطمع بعمل آخر، فإنه لا
يمكنك ذلك ما دمت تحلم بهما.
أيها القلب، لو تعرفت على نور الهداية، فستكون كالشمع، يضحك ولكنه يضحي برأسه).
3- أن لا يخالف السنن التكوينية والتشريعية:
ويشترط في الدعاء أن لا يكون مخالفًا لنظام التكوين والتشريع، فالدعاء استمداد
واستعانة، ليتوصل من خلاله الداعي إلى الأهداف التي قررها له التكوين والوجود، أو
التشريع والقوانين السماوية والإلهية، المنسجمة في طبيعتها مع التكوين، فإذا كان
الدعاء بهذه الصورة، فسوف يتخذ لنفسه طابع الحاجة الطبيعية وسوف يندفع الوجود
لتقديم المعونة له، وإيصال الفيض والمدد لحاجته ومتطلباته، بحكم المحافظة على
التوازن والتعادل الذي يتسم به نظام الوجود، وأما لو كان الطلب والاحتياج مخالفًا
لأهداف التكوين والتشريع، أمثال المطالبة بالخلود في الدنيا، أو بقطع الرحم، فإن
مثل هذا الدعاء لا يقبل الاستجابة، أي أن هذه الأدعية لا تكون تطبيقات حقيقية
للدعاء.
4- مجانسة شؤون الداعي كلها مع الدعاء:
ويشترط أيضًا، أن تكون شؤون الداعي كلها، وشتى مجالات حياته، وإبعادها، متناغمة
مع الدعاء ومواكبة له، فلا بد أن تكون جميعها متطابقة، بدورها أيضًا مع أهداف
التكوين والتشريع فالقلب لا بد أن يكون نظيفًا وطاهرًا، ولم يسلك لمعيشته طرق
الحرام، ولا يحمل على عاتقه وزرًا ومظلمة لأحد، وفي حديث عن الأمام الصادق عليه
السلام: (إذا أراد أحدكم أن يستجاب له فليطلب كسبه وليخرج من مظالم الناس ان الله
لا يرفع إليه دعاء عبد وفي بطنه حرام أو عنده مظلمة لأحد من خلقه).
5- أن لا يكون مطلوبه من آثار الذنوب:
الشرط الخامس: أن لا تكون حالته الراهنة التي يحلم بتغييرها إلى حياة أفضل،
بالدعاء، قد حصلت نتيجة عصيانه، وتهاونه في ممارسة وظائفه وتكاليفه، فيجب أن لا
تكون الحالة التي عليها الداعي، والتي يدعو من أجل تغيرها، عقوبة في حقه، ونتيجة
منطقية لما اقترفه من ذنوب، واستهانة بوظائفه، فإن حالته حينئذٍ لا تتغير بالدعاء
وحده، بل لا بد أن يتوب، ويستغفر، ويزيل كل أسباب الحالة الراهنة وعواملها. فمثلاً،
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من الواجبات الشرعية، وصلاح المجتمع، أو فساده،
متوقف تمامًا، على تطبيق هذين الأصلين، وعدمه، والنتيجة المنطقية لعدم تطبيقهما هو
توفير المناخ المساعد، لسيطرة الأشرار على مقدرات المجتمع، والعبث بما شاوؤا به،
وإذا فرط المجتمع في ممارسة هذه المهمة المقدسة، فسوف يتعرض للعقوبة، وللنتيجة
المنطقية الناجمة من تقصير هذا المجتمع وتفريطه بالوظائف الملقاة على عاتقه، وطريق
الخلاص من الواقع التعيس الذي يعيشونه، يتحدد بالتوبة، وممارسة الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، بمدى ما يملكونه، من إمكانات وقدرات وبذلك فحسب، سيتوصلون إلى
الآمال التي يحملون بها (إن الله لا يغير ما يقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) وهذه من
السنن الإلهية، وفي رواية معتبرة (لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن
الله عليكم شراركم فيدعو خياركم ثم تدعون فلا يستجلب لكم) وفي الواقع أن مثل هذه
الأدعية على خلاف السنن التكوينية والتشريعية. وهكذا الأمر بالنسبة لمن يستسلم
للبطالة والكسل، فلا يعمل شيئًا، بل كل ما يفعله هو الدعاء، فإن هذه الحالة مخالفة
للسنن التكوينية والتشريعية. يقول الأمام علي (عليه السلام): (الداعي بلا عمل
كالرامي بلا وتر) فلا بد أن يضم العمل للدعاء، لأن كل واحد منهما يكمل الآخر.
6- يلزم أن لا يحل الدعاء محل العمل:
الشرط السادس للدعاء: أن يكون الإنسان محتاجاً واقعاً، ويتحقق ذلك في المجال
الذي لا يمتلك فيه الإنسان أي وسيلة وسبيل للوصول لمطلوبه، حيث يكون عاجزاً عن
التوصل إليه، وأما لو وضع الله تعالى، في يده، مفتاح حاجته، ولكنه كفر بتلك النعمة
الإلهية، وتجنب استخدام هذا المفتاح ثم يطلب من الله أن يفتح له تلك الباب التي
يمتلك مفتاحها، حتى لا يتحمل عناء استخدام المفتاح، فمثل هذا الدعاء لا يقبل
الاستجابة. ومثل هذه الأدعية، يلزم عدها من الأدعية المخالفة للسنن التكوينية، إن
الإنسان يستهدف من الدعاء تحصيل القدرة، والدعاء في مثل هذه الحالة التي تتوافر
فيها القدرة لدى الإنسان، من قبيل تحصيل الحاصل، وقد أشير لهذه الفكرة، في بعض
الروايات التي وردت عن أئمة الدين (عليهم السلام).
فقد (روى جعفر بن إبراهيم عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: أربعة لا
يستجاب لهم دعوة: رجل جالس في بيته يقول: اللهم ارزقني، فيقال له: ألم آمرك في
الطلب؟ ورجل كانت له امرأة فاجرة، فدعا عليها، فيقال له: ألم أجعل أمرها إليك؟ ورجل
كان له مال فأفسده، فيقول: اللهم ارزقني، فيقال له ألم آمرك بالإصلاح (بالاقتصاد)
ثم قال: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا، ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً) ورجل كان
له مال فأدناه رجلاً ولم يشهد عليه فجحده، فيقال له: لم آمرك بالإشهاد). ومن الواضح
أن عدم الاستجابة لا تختص بهذه الأربعة، فإنها قد ذكرت من باب المثال، فإذا تمكن
الإنسان من التوصل لأهدافه بواسطة العمل التدبير، ولكنه قصر في ذلك، ويرغب في أن
يحل الدعاء محل عمله، فإن ذلك لا يتحقق أبداً. أن الدعاء لم يشرع حتى يتخذ موقع
العمل، بل الدعاء مكمل للعمل، ولا يحل محله.
تساؤلات حول الدعاء:
قد طرحت حول الدعاء تساؤلات عديدة، قديماً وحديثاً، أمثال أن الدعاء لا يتلائم
والاعتقاد بالقضاء والقدر، فمع الاعتراف بأن كل شيء محدد وفق القضاء والقدر الإلهي،
فما هو أثر الدعاء حينئذٍ؟ وهل يمكن له تغير القضاء والقدر.
وقد يسأل، بأن الدعاء لا يتلائم والاعتقاد بأن الله حكيم، وأنه لا تجري الأمور إلا
وفق المصالح، فهل نستهدف بالدعاء أن يغير ما يوافق الحكمة والمصلحة، أو ما يخالفها؟
فإذا كنا نستهدف تغيير الموافق للحكمة، فكما يلزم علينا أن لا نطلب من الله ما
يخالف الحكمة، وكذلك فإن الله لا يستجيب لمثل هذا الدعاء وأما إذا استهدفنا تغيير
المخالف لها فذلك يستوجب الاعتراف ضمنياً بوجود ما يخالف الحكمة والمصلحة في هذا
العالم، الذي يجري وفق المشيئة الإلهية الحكيمة.
وكذلك قد يسأل بأن الدعاء يخالف الرضا والتسليم، وأنه يلزم على الإنسان أن يرضى بكل
ما يحدث. ولهذه الأسئلة، وما يدور حولها من دراسات وبحوث تاريخ طويل، وحتى أنها
تشكل جانباً من أدبنا ولسنا في صدد البحث عنها، وكل هذه الاعتراضات والشبهات ناتجة
من هذه الفكرة وهي: ما يتوهم من أن الدعاء خارج عن نطاق القضاء والقدر الإلهي،
وخارج عن حدود الحكمة الإلهية، مع أن الدعاء واستجابة الدعاء من مسائل القضاء
والقدر الإلهي، ولا ينافي الدعاء الرضا بالقضاء والقدر الإلهي، ولا مجال لنا للبحث
أكثر حول هذا الموضوع.
ليالي القدر:
لا بد أن نحتذي في سلوكنا، وحياتنا، خطى قادة الدين، ولا بد من التزود من هذه
الفرصة الثمينة، وهي ليالي القدر، والعشرة لا خيرة من شهر رمضان المبارك. يقول
القرآن الكريم: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان،
فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) وقد ذكرت هذه الآية الشريفة خلال آيات
الصوم، ولعل في ذلك، دليلاً على تميز هذا الشهر المبارك بالدعاء والاستغفار، وكان
أئمة الدين يهتمون كثيراً بليالي القدر، والأحياء فيها.
وكان الرسول (صلى الله عليه وآله) لا يمد فراشه في العشرة الأخيرة من شهر رمضان
المبارك، وذلك لأنه كان يعتكف بالمسجد، ويتفرغ للعبادة، والدعاء مع خالقه، وكان
الإمام زين العابدين (عليه السلام) لا ينام أي ليلة من ليالي شهر رمضان، ويقضي
الليل أما بالدعاء أو الصلاة، أو بإعانة الفقراء، والضعفاء، وفي السحر كان يتلو
الدعاء الذي يعرف بدعاء أبي حمزة الثمالي.
لذة الدعاء والانقطاع:
أولئك الذين عرفوا وذاقوا لذة الدعاء وحلاوة الانقطاع من الخلق للخالق، لا يرجحون
أي لذة عليها، أن الدعاء في تلك اللحظات يسمو، إلى ذروة عزته وعظمته ولذته، ويغرق
فيها الداعي بسعادة عامرة، حيث سيرى اللطف والمدد الإلهي الخاص، وآثار الاستجابة
لدعائه في نفسه (وانلني حسن النظر في ما شكوت وأذقني حلاوة الصنع فيما سألت). ويقول
العلماء، هناك فرق بين علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، ويضربون لذلك مثالاً،
لنفرض أنه كانت هناك نار في موضع ما، فتارة ترى آثار النار، من بعيد، كالدخان الذي
يتصاعد منها، وبواسطته تكتشف وجود النار هناك، وهذا يعبر عنه (بعلم اليقين) وأخرى
تقع عينك على النار نفسها عن كثب، وهنا ما يعبر عنه (بعين اليقين) والمشاهد أسمى من
المعلوم، وثالثة أن تقترب إلى النار أكثر، إلى الحد الذي تصل فيه حرارتها إلى بدنك،
وتحتويك النار، وهذا ما يسمى (حق اليقين). فيمكن للإنسان أن يعرف الله تماماً ويؤمن
بوجوده المقدس، ولكن لا يرى في حياته، آثار لطفه، وعناياته الخاصة، التي تفاض
أحياناً لبعض عباده، وهذه مرحلة (علم اليقين)، وأحياناً يشاهد آثار التوحيد عملياً،
يدعو الله، ويستجاب دعاؤه، ويرى كل ذلك، ويعتمد على الله، ويتوكل عليه في كل أعماله
ولا يعتمد على غيره، ويرى آثار التوكل في حياته، فيشاهد آثار التوحيد وهذه مرحلة
(عين اليقين)، وتشعر هذه الفئة باللذة والسعادة، لأنها من أهل القلوب، وأهل التوكل
وتبتهج من هذه الحالة، ولكن هناك مرحلة أسمى، أن يرى الداعي نفسه، قد ارتبط بذات
الله بصورة مباشرة، بل لا يرى (الأنا)، ولا يبصر نفسه، فالفعل فعله، والصفة صفته،
ويراه في كل شيء. حين يتعلم الإنسان حرفة، أو علماً ما ويصبح طبيباً أو مهندساً
مثلاً، وبعد سنين طويلة، من المتاعب، والمشاق، والجهود المضنية، حين يشاهد، لأول
مرة، آثار صنعته، أو عمله، كما لو عالج مريضاً، ويرى نصب عينيه، أن المريض يبرأ من
مرضه بسبب علاجه، يغرق هذا الشخص بالسعادة ويمتلكه الفرح، ويشعر بلذة غامرة، فمن
أفضل اللذات، أن يرى الإنسان بعينيه نتائج علمه، وصنعته. فما هي حالة الإنسان، وما
هو شعوره، حين يشاهد آثار إيمانه، أي يلمس المدد الإلهي الخاص به، فإنه سيشعر
بالعزة، نتيجة نجاحه في طريق التوحيد، ويشعر ببهجة فائقة، تغمر أعماقه، أعذب وأسمى
من اللذات جميعها، ندعوه تعالى أن يجعلنا مؤهلين لمثل هذه الألطاف الخاصة.
وفي نهاية البحث، وبعد هذه الرحلة الممتعة، مع هذه الدراسة الحافلة بالآراء
والنظرات العميقة - نحب أن نشير إلى بعض الآثار العملية للدعاء، بغض النظر عن
الثواب، أو الاستجابة التي ينشدها الداعي من دعائه.
1- الإيحاء الذاتي:
أن الأدعية المنصوصة، تتضمن الكثير من التعاليم الإسلامية، حول مختلف مجالات
الحياة الاقتصادية، والسياسية والاجتماعية، والنفسية، وغيرها، ومن المسلمات في علم
النفس والأخلاق، ما تملكه (عملية الإيحاء الذاتي) من التأثير في دفع الإنسان إلى
تمثل ما يلقن، وما يوحى به إلى نفسه، وإلى تطبيقه عملياً، ومثاله، ما يلاحظ كثيراً
من تكرار فكرة الشهادة والجهاد في الأدعية، وهذا ما يؤدي إلى ترسيخ روح الشهادة
والجهاد في قراء هذه الأدعية، فإن تكرار قراءة الدعاء وتلقين النفس باستمرار،
بالتعاليم السامية التي تتضمنها الأدعية، مما يحث الإنسان على تطبيقها عملياً في
سلوكه وحياته.
2- الشعور برقابة الله:
إن الإسلام قد شجع على الممارسات التي تزيد من توطيد الصلة بين الإنسان وربه،
ولعل من حكم الصلاة - تذكير الإنسان بربه، حين يؤدي هذه الوظيفة الإلهية التي تشمل
على الدعاء في كل أجزائها، ويكررها يومياً أكثر من مرة، فإنها تؤدي إلى أن يكون
أكثر شعوراً برقابة الله، في حياته، فإن من لم يمارس الممارسات والنشاطات التي
تتضمن هذا الشعور المقدس، ربما يتضاءل، بل ويضمر، في نفسه، هذا الإحساس برقابة
الله، نتيجة لضغط العلاقات الدنيوية والأجواء المادية التي تكشفه وتحيط به،
والإحساس برقابة الله، من العوامل الفاعلة، التي لها تأثيرها الكبير في شد الإنسان
بالشريعة الإلهية، ليلتزم بما يرضي الله، ومن هنا استخدم الإسلام الكثير من
الأساليب، لزرع هذا الشعور المقدس في أعماق الإنسان، وترسيخه، وتعميقه، ومنها
الدعاء الذي ينتشل الإنسان في بعض اللحظات، من زحمة العلاقات الدنيوية، ليعيش في
تلك اللحظات مع ربه، يناجيه، ويبتهل إليه، وبذلك يرسخ في نفسه الشعور برقابة الله،
أكثر، وأكثر.
3- القدرة على الكفاح:
أن قراءة الأدعية، وقيام الليل، والمناجاة، تزيد من قدرة الإنسان وتصميمه على
تحمل متاعب الحياة ومصاعبها، وهنا مادلت عليه التجربة، فإن من يمارس الدعاء ممارسة
فاعلة، ويلهج بذكر الله دائماً، يكون أكثر اقتداراً، وأقوى إرادة من غيره، ويكون
متميزاً بطاقة روحية هائلة، ولعل هناك علاقة سببية بين الشطر الأول، والشطر الثاني،
من البيت التالي الذي قيل في مدح الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام):
هو البكـاء في المحراب ليـلاً هو الضحاك إذا اشتد
الضراب
أي أن من يقوم به الليل، ويبكي في المحراب، ويناجي ربه في تلك الساعات. سيكون
ضاحكاً في ساحات الحروب، ولعله لهذا السبب وغيره، يؤكد الإمام الخميني على قراءة
الأدعية، قراءة فاعلة، مثمرة، لا كما يفعله الغائبون عن الحياة العملية، فيقرأ
الدعاء، ليكون أكثر اقتداراً على الكفاح والجهاد، وفي مواجهة المصاعب والعقبات التي
تعترض المؤمنين العاملين في سبيل تحقيق طموحاتهم وآمالهم المقدسة.
* الدعاء
وسيلة النجاة /اية الله الشهيد مرتضى مطهري .
|