الحديقة الثالثة والعشرون
وفيها
* وإحساني في عليين
*عليون: في اللغة
* في كتاب الله تعالى
* الكتاب، الأبرار، المقربون
* معنى الآية، والدعاء
* الطلبات الكبار
* وإساءتي مغفورة
* ويقيناً تباشر به قلبي
* ماهو اليقين؟
* نموذج لأهل اليقين
* تباشر به قلبي
* دعاء اليوم الثالث والعشرين
*دعاء آخر جمعة
*صلاة الليلة الرابعة والعشرين
تقدم أن هناك فقرة مشتركة بين جميع أدعية العشر الأخيرة
من شهر رمضان المبارك، كما تقدمت وقفة عند عبارتين منها،وهما:
1- وأن تجعل اسمي في هذه الليلة في السعداء.
2- وروحي مع الشهداء.
وأتابع هنا الوقوف في ظلالها بلحاظ أهمية التفكير بهذه المضامين التي أريد لنا أن
نتفاعل معها في أكثر أيام شهر الله تعالى أهمية وحساسية.
يتركز الحديث هنا حول " وإحساني في علّيين وإساءتي مغفورة
وأن تهب لي يقيناً تباشر به قلبي.."
* وإحساني في عليين
لكي نعرف معنى طلبنا من الله تعالى أن يكون إحساننا في علّيين، فلا بد من معرفة
المراد بعلّيين؟
عِلِّيُون مصطلح قرآني. قال تعالى "إن كتاب الأبرار لفي علّيين وما أدراك ما علّيون
كتاب مرقوم يشهده المقرّبون".
وتضعنا الآية الكريمة أمام واجب معرفة معنى: الكتاب، والأبرار، والمقربين، لتكتمل
الصورة.
وفي مايلي وقفة عند معنى عليين، ثم عودة إلى المصطلحات الأخرى الواردة في الآية.
*عليون: في اللغة
ونرجع إلى مصادراللغة فنجد: علّيّون: جمع عِلِّيّ: المكان العالي ويقال أيضاً:
عِلّيه وعُلّيه. وقد أورد العلامة المجلسي لهذه المفردة عدة معانٍ فقال:"
عليون " اسم للسماء السابعة، وقيل اسم لديوان
الملائكة الحفظة ترفع إليه أعمال الصالحين من العباد.وقيل: أراد أعلى الأمكنة وأشرف
المراتب وأقربها من الله تعالى في الدارالآخرة .
فهل المراد بعلّيّين في الآيات المباركة المتقدمة اسم مكان في أعلى الجنة كما تبنى
هذا الرأي جماعة؟ أم أنه اسم سكان هذا المكان العالي كما تبنى هذا الرأي جماعة
آخرون؟
الواقع أنه يمكن الجمع بين هذين الرأيين بتقريبين:
الأول:علّيون اسم مكان يسكنه أناس لهم ميزة
ليست لغيرهم، ودرجة من القرب إلى الله عزَّ وجلّ عالية لايصل إليها سواهم، ولاختصاص
هذا المكان ودرجته بهم، فهم "عِلِّيون".
الثاني: علِّيون في الأصل اسم لهؤلاء "العالين"
وحيث أن " المكان بالمكين" فقد اتخذ المكان
الخاص بهم هذا الإسم فأصبح يقال له" عِلِّيون".
والثاني أرجح ويؤيده بحث "الأعراف" في القرآن
الكريم وخلاصته أنا نطلق اللفظ على المكان لأن أهله هم "الأعراف".
كما يؤيده أنه قد ورد في الروايات استعمال علّيّين بمعنى المكان وبمعنى أصحاب
المكان.
من الأول: عن الإمام الباقر عليه السلام: "إن
الله عزَّ وجلّ خلقنا من أعلى علّيّين وخلق قلوب شيعتنا مما خلقنا منه وخلق أبدانهم
من دون ذلك فقلوبهم تهتدي إلينا لأنها خُلقت مما خُلقنا منه".إذاً هناك
مكان يطلق عليه اسم علّيّين.
ومن الثاني أي أن كلمة علّيّين تستعمل ويراد بهاأصحاب هذا المكان، والساكنين فيه،
قول أمير المؤمنين عليه السلام: "الإستغفار درجة
العلّيّين" إذ يمكن القول-على تأمل- إنها استُعمِلت هنا بمعنى: أصحاب
هذا المكان الساكنين فيه.
* في كتاب الله تعالى
وحيث أن مصطلح "عليين" قرآني فينبغي لاستيضاح
معناه ملاحظة مايرتبط به في كتاب الله تعالى.
ونجد فيه الحديث عن "العالين" ملفتاً، مما
يحتم الربط بينهم وبين هذا المصطلح فالعالون هم السر في إطلاق هذا المصطلح "عليون".
حول قوله تعالى: قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من
العالين. ص75 قال السيد الطباطبائي قوله:
﴿أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِين﴾
استفهام توبيخ أي أكان عدم سجودك لأنك استكبرت أم كنت من الذين يعلون أي يعلو قدرهم
أن يؤمروا بالسجود، ولذا قال بعضهم بالإستفادة من الآية إن العالين قوم من خلقه
تعالى مستغرقون في التوجه إلى ربهم لا يشعرون بغيره تعالى.
وقيل: المراد بالعلو الإستكبار كما في قوله تعالى:
﴿وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ﴾
يونس: 83 والمعنى استكبرت حين أمرت بالسجدة أم كنت من قبل من المستكبرين؟
ويدفعه أنه لا يلائم مقتضى المقام فإن مقتضاه تعلق الغرض باستعلام أصل استكباره لا
تعيين كون استكباره قديما أو حديثا.
وقيل:" المراد بالعالين ملائكة السماء فإن المأمورين
بالسجود هم ملائكة الأرض. ويدفعه ما في الآية من العموم".
والنتيجة هي أن هناك مكاناً عالياً جداً في الجنة أطلق عليه اسم عليين لأنه مكان "
العالين". وهو مراتب ودرجات كما سيتضح من الروايات.
* الكتاب، الأبرار، المقربون
ويستدعي استيضاح ذلك التأمل في الآيات والروايات حول مصطلحات: الكتاب والأبرار
والمقربين التي ورد ذكرها في الآيات الكريمة.
والبحث حول ذلك طويل أقتصر على إضاءات منه.
أ- الكتاب والمراد به هنا ماكتب وقضي قضاء حتماً.
ب- الأبرار وقد عرفهم الله تعالى بقوله:
﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ
قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ
عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ
وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ
وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء
والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُتَّقُون﴾.(
البقرة 177.)
قال السيد الطباطبائي:" وبالجملة قوله ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر، تعريف
للأبرار وبيان لحقيقة حالهم، وقد عرفهم أولاً في جميع المراتب الثلاث من الإعتقاد
والأعمال والأخلاق بقوله: من آمن بالله. وثانياً بقوله: أولئك الذين صدقوا. وثالثا
بقوله: وأولئك هم المتقون. فأما ما عرفهم به أولاً فابتدأ فيه بقوله تعالى: من آمن
بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، وهذا جامع لجميع المعارف الحقة
التي يريد الله سبحانه من عباده الإيمان بها، والمراد بهذا الإيمان، الإيمان التام
الذي لا يتخلف عنه أثره، لا في القلب بعروض شك أو اضطراب أو اعتراض أو سخط في شئ
مما يصيبه مما لا ترتضيه النفس، ولا في خلق ولا في عمل، والدليل على أن المراد به
ذلك قوله في ذيل الاية: أولئك الذين صدقوا. فقد أطلق الصدق ولم يقيده بشئ من أعمال
القلب والجوارح فهم مؤمنون حقاً صادقون في إيمانهم كما قال تعالى:
﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ
حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾(
النساء - 65)، وحينئذ ينطبق حالهم على المرتبة الربعة من مراتب الايمان .
وبالرجوع إلى ما أرجع إليه، نجدأن مراتب الإيمان الأربعة
التي ذكرها رحمه الله تعالى، هي – باختصار- كما يلي:
1- الإعتقاد بالشهادتين إجمالاً.
2- الإعتقاد بمجمل العقائد الحق على نحو التفصيل، والإلتزام بالأعمال الصالحة مع
إمكان تجاوزها أحياناً.
3- إنقياد القوى الغريزية لهذا الإعتقاد، والوصول إلى مرتبة أن يعبد الله تعالى
كأنه يراه.
4- أن تشمل العبد في هذه الحالة عناية إلهية خاصة فيشهد -ويعاين- أنه لامؤثرإلا
الله تعالى و" أن الملك لله وحده لا يملك شئ سواه لنفسه
شيئا إلا به لا رب سواه، وهذا معنى وهبي، وإفاضة إلهية لا تأثير لإرادة الإنسان فيه".
ويستوعب هذا الحال جميع حالاته وأفعاله" قال تعالى:
﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون﴾
(يونس - 62)، فإن هؤلاء المؤمنين المذكورين في الآية يجب أن يكونوا على يقين أن لا
استقلال لشيء دون الله، ولا تأثير لسبب إلا بإذن الله حتى لا يحزنوا من مكروه واقع،
ولا يخافوا محذوراً محتملاً، وإلا فلا معنى لكونهم بحيث لا يخوفهم شئ ولا يحزنهم
أمر.
وهكذا يتضح أن الأبرار هم أهل المرتبة متقدمة جداً من مراتب الإيمان، بل هم في أعلى
المراتب التي يمكن لغير المعصوم بلوغها.
ج- المقربون وحول هذا المصطلح أقتطف من كلام السيد الطباطبائي قدس سره مايلي:
أ- قوله تعالى:
﴿يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُون﴾
الأنسب لما تقدم من معنى الآيات السابقة أن يكون
﴿يَشْهَدُهُ﴾
من الشهود بمعنى المعاينة والمقربون قوم من أهل الجنة هم أعلى درجة من عامةالأبرار
على ما سيأتي استفادته من قوله:
﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾
فالمراد معاينتهم له بإراءة الله إياه لهم.
2-
﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي
عِلِّيِّينَ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ
الْمُقَرَّبُون﴾َ
( المطففين - 21)، وهذه الآيات تدل على أن المقربين هم الذين لا يحجبون عن ربهم
بحجاب قلبي وهو المعصية والجهل والريب والشك، فهم أهل اليقين بالله، وهم يشهدون
عليين كما يشهدون الجحيم.
3-
﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾
(يونس: 63) وقوله:﴿الَّذِينَ
آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ
وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾
( الانعام: 82).
وهؤلاء هم المقربون الفائزون بقربه تعالى إذ لا يحول بينهم وبين ربهم شئ مما يقع
عليه الحس أو يتعلق به الوهم أو تهواه النفس أو يلبسه الشيطان فان كل ما يترائى لهم
ليس الا آية كاشفة عن الحق المتعال لا حجابا ساترا فيفيض عليهم ربهم علم اليقين
ويكشف لهم عما عنده من الحقائق المستورة عن هذا الأعين المادية العمية بعد ما يرفع
الستر فيما بينه وبينهم كما يشير إليه قوله تعالى:
﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي
عِلِّيِّينَ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ
الْمُقَرَّبُون﴾َ
( المطففين: 21) وتؤكد الروايات هذا المعنى الذي لايمكن تفسير الآيات بموضوعية إلا
به، وأكتفي بذكر بعضها:
1- عن الإمام الباقر عليه السلام يقول: إن الله عز وجل خلقنا من أعلى عليين وخلق
قلوب شيعتنا مما خلقنا منه وخلق أبدانهم من دون ذلك فقلوبهم تهوى إلينا لأنها خلقت
مما خلقنا ثم تلا هذه الآية:
﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي
عِلِّيِّينَ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ
الْمُقَرَّبُون﴾َ.وخلق
قلوب عدونا من سجين وخلق قلوب شيعتهم مما خلقهم منه وأبدانهم من دون ذلك، قلوبهم
تهوى إليهم لأنها خلقت مما خلقوا منه ثم تلا هذه الآية:
﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ*
وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ* وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِّلْمُكَذِّبِين﴾.
2- وعنه عليه السلام: عن أبيه علي بن الحسين عليه السلام عن جابر بن عبد الله رضي
الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله قال: قوله عز وجل: ومزاجه من تسنيم. قال: هو
أشرف شراب في الجنة يشربه محمد وآل محمد، وهم المقربون السابقون: رسول الله صلى
الله عليه وآله وعلي بن أبي طالب والأئمة وفاطمة وخديجة صلوات الله عليهم وذريتهم
الذين اتبعوهم بإيمان، يتسنم عليهم من أعالي دورهم.
3- وعنه عليه السلام: في قوله تعالى: كلا إن كتاب الأبرار، إلى قوله: المقربون. هو
رسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام.
4- وعن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى:
﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُوْلَئِكَ
الْمُقَرَّبُون﴾
قال: نحن السابقون، ونحن الآخرون. * معنى الآية، والدعاءوبناء على ما تقدم يكون
المعنى الإجمالي لقوله تعالى: إن كتاب الأبرار لفي عليين أن المكتوب والمحتوم
للأبرار أنهم في مكان عالٍ جداً في الجنة، وهذا المكان يشهده ويعاينه المقربون
الذين هم في أعلى الدرجات والمراد بالمقرّبين المصطفى صلى الله عليه وآله وسلّم
وأهل البيت عليهم السلام المختصين بمرتبة من القرب من الله تعالى لا يطمع فيهاأحد.
وعلى هذا الأساس فإن المراد عندما نطلب أن يجعل الله تعالى إحساننا في علّيّين أن
يمُنَّ علينا بصالح الأعمال التي يوفَّق لها الأبرار ويمُنَّ علينا عزَّ وجلّ بأحسن
قبولها لتكون أعمالنا في علّيّين ونصبح من أهلها، وبديهي أن ذلك يتوقف على معرفة
رسول الله صلى الله عليه وآله، وهم المقربون الذين كانت عليون بهم، فالدعاء إذاً
بمثابة طلب العقيدة الحق والعمل بمقتضاها. وما ذلك على الله بعزيز.
* الطلبات الكبار
و تريد لناهذه المضامين أن نتعلم التركيز على الطلبات الكبيرة، فلا يقتصر الإنسان
في دعائه على الأمور الصغيرة العادية.
ينقل في هذا المجال أن شخصاً كان يدعو دائماً أن يرزقه الله تعالى كوخاً في الجنة،
وذات يوم رأى في منامه أن القيامة قامت واستقرّ أهل الجنة في قصورهم وإذا به يُعطى
كوخاً! فقال: إلهي، ولماذا؟ فجاء الجواب أنت طلبت هذا.
يراد لنا أن نتعلم أن نطلب من أكرم الأكرمين الطلبات الكبيرة من قبيل: "وإحساني
في علّيّين".
وتسأل: لماذا لم نطلب درجة المقرّبين؟
والجواب: لأن هذه الدرجة لا يطمع فيها أحد كما تقدم فهي لصفوة خلق الله
عزَّ وجلّ.
* وإساءتي مغفورة
والمراد بذلك أن يوفقنا الله تعالى للتوبة عند الهفوات ويغفر لنا زلاتنا حتى لا
نحاسب يوم القيامة بإساءة.
وبديهي أن"الزلة" لاتكون عن سابق عمد وإصرار،
وهو مايوضح أن القرار بعدم الوقوع في المعصية قد اتخذ سابقاً وهو أمر مفروغ منه،
لتنحصر مشكلة الداعي الذي يقول" وإساءتي مغفورة"
بالزلات التي تكون نتيجة غلبة الشقوة.
وكأن من يقرأ هذا الدعاء يريد أن يقول: لضعفي وغلبة شقوَتي سأعود إلى المعصية رغم
توبتي وحبي لرضاك يا إلهي، اللهم فاجعل إساءتي التي سأقع فيها مغفورة. وفّقني
للتوبة منها وتقبّل توبتي.
هنيئاً لمن لا يجد في ديوان أعماله سيئة، يوم العرض على الله تعالى.
* ويقيناً تباشر به قلبي
من الواضح أن الأعمال الصالحة تزيد في توفيق الإنسان واستحقاقه للهدى وعندما توجه
الداعي إلى الله عزَّ وجلّ أن يجعل إحسانه في علّيّين وإساءته مغفورة، إنطلق من ذلك
ليطلب ما يترتب عليه فقال " ويقيناً تباشر به قلبي" إلهي إذا جعلت إحساني في
علّيّين وإساءتي مغفورة فإني بكرمك وبفضلك لا باستحقاقي أُصبح أطمع باليقين.
وهنا سؤالان: أولاً: ما هو اليقين؟
ثانياً: لماذا أمرنا أن ندعو بطلب مباشرته للقلب "تباشر
به قلبي"؟
* ماهو اليقين؟
حول السؤال الأول، يمكن القول: اليقين اعتقاد جازم ناشيء عن رؤية الحقيقة بالقلب أو
به وبالعين رؤية لا تقبل التشكيك فضلاً عن التكذيب.
وهذه بعض الروايات:
1- روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم "الموقن يعمل لله كأنه يراه فإن لم
يكن يرى الله فإن الله يراه وأن يعلم يقيناً أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما
أخطأه لم يكن ليصيبه.
2- عن أبي الحسن عليه السلام، قال: سمعته يقول: الإيمان فوق الإسلام بدرجة، والتقوى
فوق الإيمان بدرجة. واليقين فوق التقوى بدرجة، وما قسم في الناس شئ أقل من اليقين.
3- عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال: من صحة يقين المرء المسلم أن لا يرضي
الناس بسخط الله، ولا يلومهم على ما لم يؤته الله، فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص ولا
يرده كراهية كاره، ولو أن أحدكم فر من رزقه كما يفر من الموت لأدركه رزقه كما يدركه
الموت، ثم قال: إن الله تعالى بعدله وقسطه جعل الروح والراحة في اليقين والرضا،
وجعل الهم والحزن في الشك والسخط.
قال العلامة المجلسي: " وجعل بعض المحققين لليقين ثلاث
درجات: الاولى علم اليقين، وهو العلم الذي حصل بالدليل كمن علم وجود النار برؤية
الدخان. والثانية عين اليقين، وهو إذا وصل إلى حد المشاهدة كمن رأى النار. والثالثة
حق اليقين، وهو كمن دخل النار واتصف بصفاتها".
والخلاصة أن اليقين الذي نطلبه من الله عزَّ وجلّ، عندما نقول في كل ليلة من العشر
الأواخر هو بمعنى أن يصبح إيماننا إيماناً قوياً لا يتداخله أي شك وأدنى ريب على
الإطلاق ليصبح من يطلب ذلك - في أدنى درجاته- هو والجنة كمن قد رآها فهو فيها
منعَّم، وهو والنار كمن قد رآها فهو فيها معذَّب، وفي أعلى درجاته ممن يرون الجنة
ويرون الجحيم.
* نموذج لأهل اليقين
ورد عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، صلى في
الناس الصبح فنظر إلى شاب في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه مصفرا لونه قد نحف جسمه،
وغارت عيناه في رأسه، (ولصق جلده بعظمه) فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: كيف
أصبحت يا (حارث)؟ قال: أصبحت يارسول الله موقناً، فعجب رسول الله صلى الله عليه
وآله، من قوله وقال له: إن لكل يقين حقيقة فما حقيقة يقينك؟ فقال: إن يقيني يارسول
الله هو الذي أحزنني، وأسهر ليلي، وأظمأ هواجري، فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها حتى
كأني أنظر إلى عرش ربي قد نصب للحساب، وحشر الخلائق لذلك، وأنا فيهم، وكأني أنظر
إلى أهل الجنة يتنعمون في الجنة ويتعارفون على الأرائك متكئون، وكأني أنظر إلى أهل
النار وهم فيها معذبون مصطرخون، وكأني الآن أسمع زفير النار يدور في مسامعي. فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله: هذا عبد نَوَّر الله قلبه بالإيمان، ثم قال له:إلزم
ما أنت عليه، فقال الشاب: ادع الله لي يارسول الله أن أرزق الشهادة معك، فدعا له
رسول الله صلى الله عليه وآله، فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي صلى الله عليه
وآله، فاستشهد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر.
وهنا ملاحظات سريعة:
1- إنه نموذج للتربية النبوية، فليقف القلب على أعتابه طويلاً.
2- لم يكتف هذا الصحابي الجليل- واسمه حارثة- بما كان قد وصل إليه، ولاهو يراه
الغاية، بل الشهادة هي مرمى القلب والبصيرة.
3- قول رسول الله صلى الله عليه وآله: هذا عبد نَوَّر الله قلبه بالإيمان،
وقوله:إلزم ما أنت عليه، دعوة للأجيال، وللشباب بشكل خاص إلى هذا اليقين وهذا
السلوك.
" قال بعض المحققين: هذا التنوير الذي أشير إليه في الحديث إنما يحصل بزيادة
الإيمان وشدة اليقين، فإنهما ينتهيان بصاحبهماإلى أن يطّلع على حقائق الأشياء
محسوساتها ومعقولاتها، فتنكشف له حجبها وأستارها، فيعرفها بعين اليقين على ماهي
عليه، من غير وصمة ريب أو شائبة شك، فيطمئن لها قلبه، ويستريح بهاروحه، وهذه هي
الحكمة الحقيقية التي من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيراً، وإليها أشار أمير المؤمنين
عليه السلام، بقوله: " هجم بهم العلم على حقائق الأمور، وباشروا روح اليقين،
واستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا
بأبدان أرواحها معلقة بالملأ الأعلى " أراد عليه السلام-
بما استوعره المترفون " أي" المتنعمون- رفض
الشهوات البدنية وقطع التعلقات الدنيوية وملازمة الصمت والسهر والجوع والمراقبة
والإحتراز عما لا يعني ونحو ذلك، وإنما يتيسر ذلك بالتجافي عن دار الغرور والترقي
إلى عالم النور، والأنس بالله، والوحشة عما سواه، وصيرورة الهموم جميعاً هماً واحداً،
وذلك لان القلب مستعد لأن يتجلى فيه حقيقة الحق في الأشياء كلها من اللوح المحفوظ
الذي هو منقوش بجميع ما قضى الله تعالى به إلى يوم القيامة وإنما حيل بينه وبينها
حجب كنقصان في جوهره أو كدورة تراكمت عليه من كثرة الشهوات، أو عدول به عن جهة
الحقيقة المطلوبة، أو اعتقاد سبق إليه ورسخ فيه على سبيل التقليد، والقبول بحسن
الظن، أو جهل بالجهة التي منها يقع العثور على المطلوب وإلى بعض هذه الحجب اشير في
الحديث النبوي لو لا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء
".
فاليقين الذي أريد لنا أن نطلبه بإلحاح في العشر الأواخر من شهر الله تعالى هو هذه
المرتبة الأعلى من الإيمان، وفي الروايات تأكيد شديد على طلب اليقين.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم "أن الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان
كله".وعن أمير المؤمنين عليه السلام "إسألوا الله اليقين وارغبوا في العاقبة وخير
ما دار في القلب اليقين"، إذاً نحن مأمورون أن نطلب من الله عزَّ وجلّ أن يمنّ
علينا باليقين وأعلى درجات الإيمان بحيث إن من دخل إلى هذه المرتبة لا يتراجع ولا
يضعف،ولا يتداخله أيُّ شك على الإطلاق.
وتبلغ أهمية اليقين أن صاحبه حتى إذا لم يأتِ إلا بالواجبات فإنه قد بلغ مرتية
عظيمة.
عن علي عليه السلام أنه سمع أحد الخوارج يتهجد ويقرأ فقال أمير المؤمنين عليه
السلام "نوم على يقين خير من صلاة على شك".
فلنحرص أيها العزيز على طلب اليقين بوعي وإلحاح، خصوصاً في الموسم المخصص لذلك، وهو
هذه العشر الأواخر، كما يدل عليه تكرار الطلب فيها بما لايتناسب مع غيرها.
* تباشر به قلبي
وهو محور السؤال الثاني الذي تقدم.
قد نوقن بشيء نظرياً فيبقى في العقل ولا يصل إلى القلب. نوقن مثلاً بحُسن العدل
وقبح الظلم إلا أننا نظلم، ونوقن بحفظ حقوق الآخرين وكراماتهم، إلا أننا نتصرف بما
ينافي هذا اليقين.يبدو أن المراد هنا أن اليقين الذي يبقى في العقل ينفك عن العمل
والسلوك فتظهر الهُوَّة بين النظرية والتطبيق، أما اليقين الذي يباشر الله به
قلوبنا فإنه يتحول إلى مخزون شعوري وجداني يستند إلى قناعات العقل فلا ينفك عن
العمل، وتظهر آثاره في السلوك.
يقول الإمام الخميني رضوان الله عليه "إبذل الجهد لتصل كلمة التوحيد من عقلك إلى
قلبك فإن حظ العقل هو ذلك الإعتقاد البرهاني الجازم وإذا لم يصل حاصل هذا البرهان
بالمجاهدة والتلقين للقلب فإن فائدته وأثره لا يكادان يُذكران".إن اليقين الذي
نطلبه من الله تعالى في هذه الفقرة المتكررة في أدعية العشر الأواخر، يقين ينتقل من
العقل ويستند إلى قناعاته ويستقرفى القلب ويصبح مخزوناً من الحب لله عزَّ وجلّ ولما
يرتبط به، متلازماًمع التبرّي من أعداء الله عزَّ وجلّ وما يتصل بهم ضمن الأحكام
الشرعية والحدود الإلهية.
* دعاء اليوم الثالث والعشرين
أللهم اغسلني فيه من الذنوب وطهّرني فيه من العيوب وامتَحِن قلبي فيه بتقوى القلوب
يا مُقيل عثرات المؤمنين
إلهي أردتُ أن يكون باطني لك، وظاهري لأهل الدنيا لأصبح من أهل سرّك الذين تدخلهم
إلى الجنة سراً، فجعلتُ ظاهري لك من أجل الناس وهربت بباطني عنك، سرتُ في خطوات
الشيطان أقفو أثره مُتْهِماًً في البعد عنك ومُنْجِدا ! صبغتُ ظاهري بقشرة تقوى
بينها وبين ملامسة القلب أطنان الحجب وأثقال الذنوب!
وها أنا ذا يا إلهي في ضيافتك وقد أدركتُ أني من الأخسرين أعمالاً فهل تنهمر مُزُن
رحمتك لتغسلني من أدراني وهل تبلسم بحنانك جراحات قلبي المظلم، وتمطره بحزمة سناً
فتطهرني من عيوبي وتمنّ عليّ بتقوىً تلامس شغافه، فأعبدك وحدك وأخشاك، وأرجوك وحدك
لا شريك لك.
مذنب أنا، مقرٌ، مذعنٌ، معترفٌ، فأقِلني يا مقيل عثرات المذنبين.
* دعاء آخر جمعة
عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله في آخر
جمعة من شهر رمضان، فلما بصر بي قال لي: يا جابر هذا آخر جمعة من شهر رمضان فودعه،
وقل: أللهم لا تجعله آخر العهد من صيامنا إياه، فان جعلته فاجعلني مرحوماً، ولا
تجعلني محروماً. فانه من قال ذلك ظفر بإحدى الحسنيين: إما ببلوغ شهر رمضان من قابل،
وإما بغفران الله ورحمته.
والظاهر أن المراد تكرار هذا الوداع في الأسبوع الأخير من الشهر الكريم.
*صلاة الليلة الرابعة والعشرين
1- حصة هذه الليلة من الألف ركعة وهي عبارة عن ثلاثين ركعة، ثماني ركعات بعد صلاة
المغرب واثنان وعشرون بعد صلاة العشاء نقرأ في كل ركعة الحمد مرة وقل هو الله أحد
مرة أو بالترتيب المتقدم ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو عشراً.
2- عن رسول الله صلى الله عليه وآله:ومن صلى ليلة أربع وعشرين منه ثمانى ركعات يقرأ
فيها ما يشاء كان له من الثواب كمن حج واعتمر.
3- قال الكفعمي: "ويستحب أن يصلي في كل ليلة من شهر رمضان
ركعتين بالحمد".والتوحيد ثلاثا، فإذا سلَّم قال: سبحان من هو حفيظ
لايغفل، سبحان من هو رحيم لايعجل، سبحان من هو قائم لايسهو، سبحان من هو دائم
لايلهو. ثم يقول التسبيحات الأربع سبعاً، ثم يقول: سبحانك سبحانك ياعظيم. إغفر لي
الذنب العظيم. ثم تصلي على النبي عشراً. من صلاها غفر الله له سبعين ألف ذنب.
أسأل الله عزَّ وجلّ أن يوفقنا لمراضيه بالنبي المصطفى وآله صلوات الله عليه وعليهم.
والحمد لله رب العالمين 1.
1-مناهل الرجاء /
الشيخ حسين كوراني.
|