الحديقة الرابعة والعشرون
وفيها
* صلاة الليلة الخامسة والعشرين
* القناعة المادية
* القناعة المعنوية
* حقيقة القناعة
* لاسعادة إلا بالقناعة
* من آثار القناعة
* دعاء اليوم الرابع والعشرين
* صلاة الليلة الخامسة والعشرين
ما يزال الحديث حول الفقرة المشتركة بين أدعية الليالي العشر الأخيرة من شهر رمضان
المبارك والتي ورد فيها "وأن تهب لي فيها يقيناً تباشر به
قلبي وإيماناً يُذهِب الشك عني وترضيني بما قسمت لي".ولن
أقف عند عبارة "
وإيماناً يُذهِب الشك عني" لأن معنى ذلك قد اتضح
من خلال الحديث عن اليقين.
ويتركز الحديث هنا حول: "وأن ترضيني بما قسمت لي".
والرضا بما قسم الله تعالى، تعبير آخر عن القناعة، فهي المعنى المراد هنا.
وبالرجوع إلى الأدعية التي وردت فيها هذه الفقرة أو مايشترك معها معنى، يتضح أن
غالب الموارد ظاهر في طلب القناعة بالرزق المادي الذي قسمه الله تعالى، ولعل أوضحها"
ورضني من العيش بما قسمت لي" إلا أن بعض
الموارد ينسجم مع العموم،ولعل أوضحها " أللهم إني ضعيف
فقو في رضاك ضعفي وخذ إلى الخير بناصيتي واجعل الإيمان منتهى رضاي وبارك لي فيما
قسمت لي وبلغني برحمتك كل الذي أرجو منك واجعل لى وُدّاً وسروراً للمؤ منين وعهداً
عندك".
فإن" كل الذي أرجو" عام يضيء على معنى"
ماقسمت لي" على تأمل ضعيف، ويأتي مزيد إيضاح.
* في الروايات
وهذه نبذة من الروايات حول القناعة:
1- عن الإمام الصادق عليه السلام كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: ابن آدم إن
كنت تريد من الدنيا ما يكفيك فإن أيسر ما فيها يكفيك وإن كنت إنما تريد ما لا يكفيك
فإن كل ما فيها لا يكفيك. إذا لم يحدد الإنسان هدفه، ويقرر بوضوح ماذا يريد في هذه
الحياة الدنيا؟ هل يريد أن تتكامل إنسانيته وهو لذلك بحاجة إلى مايكفيه، أم يريد أن
تتكامل ملكيته، وهو لذلك يطلب تملك كل ما يمكنه الوصول إليه، ولا يقف عند عنوان "
مايكفي" فإنه سيبقى في ضنك دائم ومعاناة مستمرة، ولن يحقق ما يريد.
2- عن الإمام الباقر عليه السلام "أكل أمير المؤمنين عليه
السلام، من تمر دقل، ثم شرب عليه الماء وضرب على بطنه وقال: من أدخله بطنه النار
فأبعده الله". والدقل: أردأ أنواع التمر.
3- يقول أمير المؤمنين عليه السلام: وأيم الله يميناً أستثني فيها بمشيئة الله
ولأروضنّ نفسي رياضة تهش معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً وتقنع بالملح
مأدوماً.وحيث أننا كما قال لنا عليه السلام" لاتقدرون على ذلك، فلا أقل من عدم
الإسترسال، وأن يقتنع كلُ منا بمستوى معيشي معقول، ولا يصح أن ندع الحرص يجرُّنا
باستمرار إلى توقُّع مستويات مادية أفضل.
4- قال أبو جعفر (الإمام الباقر)عليه السلام: إياك أن تطمح بصرك إلى من هو فوقك،
فكفى بما قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وآله: "
ولا تعجبك أموالهم ولا أولادهم " وقال: "ولا
تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا " فإن دخلك
من ذلك شيء فاذكر عيش رسول الله صلى الله عليه وآله، فإنما كان قوته الشعير وحلواه
التمر ووقوده السعف إذا وجده.
5- عن الإمام الصادق عليه السلام، يقول لحمران بن أعين: يا حمران انظر إلى من هو
دونك في المقدرة ولا تنظر إلى من هو فوقك في المقدرة فإن ذلك أقنع لك بما قسم لك
وأحرى أن تستوجب الزيادة من ربك، إعلم أن العمل الدائم القليل على يقين أفضل عند
الله جل ذكره من العمل الكثير على غير يقين. واعلم انه لا ورع أنفع من تجنب محارم
الله والكف عن أذى المؤمنين و اغتيابهم ولا عيش أهنأ من حسن الخلق ولا مال أنفع من
القنوع باليسير المجزي ولا جهل أضر من العجب.
6- وتبيّن لنا الروايات أن القانع هو الذي يحيى الحياة الطيبة، وهو الملك بما تعنيه
كلمة الملك من سعادة، وسبب سعادته وحياته الطيبة حسن خلقه الذي يتجلى في قناعته.سئل
أمير المؤمنين عليه السلام عن قوله تعالى
﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾
فقال هي القناعة، وعنه عليه السلام "كفى بالقناعة ملكاً
وبحسن الخلق معيناً".وقد أمرنا أن نحارب الحرص في نفوسنا وهو النقيض
للقناعة.
7- عن أمير المؤمنين عليه السلام "إنتقم من حرصك بالقنوع
كما تنتقم من عدوك بالقصاص". إذا لم يحرص الإنسان على القناعة وحرص على
التملك والمستويات المادية المختلفة والمغرية فإنه لن يصل إلى ما يصبو إليه وسيبقى
يتجرع الغصص، لأنه حتى إذا حصل على أموال الدنيا فإنه لتاصُّل الحرص فيه سيبقى يطلب
المزيد، ثم يكون من الأخسرين أعمالاً.
8- عن الإمام الصادق عليه السلام "إن في ما نزل فيه الوحي
من السماء لو أن لابن آدم واديين يسيلان ذهباً وفضة لابتغى إليهما ثالثا"
.سوف لن يقف حرص الإنسان عند حد، والحريص يقضي على نفسه.
9- ورد عن الإمام الباقر عليه السلام "مثل الحريص على
الدنيا مثل دودة القز كلما ازدادت من القز على نفسها لفاً كان أبعد لها عن الخروج
حتى تموت غماً".
إن القناعة هي الحياة الطيبة التي يتخلص الإنسان فيها من تجرع الغصص ويوفّر فيها
الكثير الكثير من الوقت والجهد الذي يصرفه عادة بدون نتيجة، ليصرفه في ماينبغي،
ويوفّر ماء وجهه، وكرامته وراحة عقله وقلبه وأعصابه، ويعمل باتجاه أن يكون من الذين
رضي الله تعالى عنهم ويصل إلى جوار محمد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلّم وأهل
بيته الأطهار صلوات الله عليه وعليهم.
لذلك كله نحن مأمورون في هذه الليالي الأخيرة من شهر رمضان المبارك أن نطلب من الله
تعالى أن يرزقنا القناعة "وترضيني بما قسمت لي".
* القناعة المادية
لا شك أن عناية الوحي بأمرالمعاش والأمور المادية عموماً عناية كبيرة، تفوق بكثير
ما نعطيه لها من حجم وموقع في عملية بلورة المفاهيم، وفي قائمة مقدمة الإهتمام الذي
نعترف به، كما أنها أقل بكثير من الحجم التي تحتله في واقع اهتمامنا وإن لم
نعترف.وتكفي نظرة إلى القرآن الكريم والحديث الشريف لتوضح بجلاء مدى الأهمية التي
تولى للخمس والزكاة والصدقة والإنفاق في سبيل الله تعالى بشكل عام.
كما تكفي نظرة إلى نصوص الحكم والإدارة في الإسلام لمعرفة موقع " الفيء" وتقسيم
المال بالسوية - اللذين نجد حضورهما قوياً في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله،
وخلافة الأمير عليه السلام، وأهداف نهضة سيد الشهداء عليه السلام - ودلالة ذلك على
شديد عناية الإسلام بالأمر المعيشي للناس.
ويساعد ماتقدم على فهم معنى أن يكون من مرتكزات الدعاء مايتعلق بالرزق والشأن
المعيشي عموماً والحقيقة التي تقود إليها نصوص الوحي بخطى ثابتة هي أن الشأن
المعيشي يجب أن يكون في مقدمة الإهتمام شرط أن يبقى في الحدود المنطقية التي تتناسب
معه.
والسبب في كون موقعه الطبيعي من الأولويات هو أن الإستقرار النفسي للإنسان رهن
تأمين احتياجاته، كما أن السبب في اشتراط بقاء الإهتمام بالشأن المعيشي ضمن الحدود
والضوابط هو أن النفس البشرية إذا تفلتت من حكم العقل تستدرج إلى حيث لاتشبعها
الدنيا برمتها.
ولتحقيق هذه الموازنة في النفس، تطل علينا في الأدعية، رائعة "
وترضيني بما قسمت لي".
* القناعة المعنوية
وما يقال في الشأن المادي، ينطبق بعينه في المجال المعنوي، وإن كانت الأسباب فيهما
مختلفة، إلا أن النتيجة واحدة وهي وجود أمان كثيرة وآمال عريضة تتوق إليها النفس
وإذا لم تهتد إلى القناعة فقد تلح عليها بالحسرات التي قد تذهب بها.وبناء عليه فإن
الفقرة عامة، تشمل كل موارد الآمال والأماني. وسواءً فهمنا أن المراد هو القناعة
المادية أو ما يشمل مانتصوره معنوياً، أو يشمل بالإضافة إليهما الأمور المعنوية
الصِّرف، فإن المعنى واحد.
توضيح ذلك أن هناك ثلاثة مجالات:
1- الأمور المعيشية من مال وسائر الممتلكات.
2- الأمور التي ترتبط بها من فرص عمل، وموقع بين الناس، ومقومات شخصية يستند إليها
هذا الموقع من اختصاص وملكات.
3- الخصائص النفسية، والملكات الأخلاقية، التي تستند إلى نوع تعامل العقل والقلب
والكيان مع الحقائق.
ولئن ألفنا أن نصنف الثاني في " الأمور المعنوية"
فإنها في الواقع منه براء، فهو في حقيقته مادي، ويتضح ذلك بجلاء إذا اعتبرنا
المقياس في التصنيف هو ما ينفع في عالم المادة، وما ينفع في عالم المعنى، وبتعبير
آخر: الدنيا والآخرة.
ولا خلاف في أن البند الأخير معنوي صرف، وهو مع ذلك مورد للقناعة، كما سيأتي.
ومن المفيد الإشارة إلى أن القناعة في الأمور المعنوية لاتحتاج إلى التأكيد الذي
تحتاج إليه القناعة في الأمور المادية، لأننا نميل تلقائياً إلى الأخذ من المعنويات
بالحد الأدنى، ثم إن للشره وعدم القناعة في النفس مكمناً واحداً، إذا تمت معالجته
فقد تمت معالجة كل مجالاته، ومحل الإبتلاء هو الأولى بالتأكيد.
* حقيقة القناعة
هذه القناعة التي لا تنحصر بالشأن المادي، وما يتصور أنه معنوي إلا أن ساحة نفعه
والنية يحددان هويته، هي التي ورد الحث عليها في النصوص الدينية، لأنها تؤمن حاجة
معنوية للنفس لاغنى لها عنها، ولاتستقيم سعادتها بدونها.ويتضح ذلك بالتأمل - حول
القناعة في الأمور المادية - في أن طبيعة الدنيا قائمة على التدرج والتنافس والظلم،
مما يعني أن الأماني والآمال التي تطمح إليها النفس إما أن تتحقق في وقت وربما طال،
أو لازمته صعوبات وعقبات، وإما أن لاتتحقق وهو الغالب كما نشاهد بالوجدان.
وبالتأمل - حول القناعة في الأمور المعنوية- في أن التدرج يبرز كقاسم مشترك في عدم
التحقق الدفعي للأماني والآمال، ولكن لاوجود للتنافس والظلم كعاملين يحولان دون
تحقيق ما تصبو إليه النفس - في البعد المعنوي- إلا أن المعاناة أشد وطأة لفارق
جوهري،وعليه فإن عدم الرضا بما قُسم أوفقل عدم القناعة به سيترك آثاره السلبية
كدوحاً في النفس بعيدة الغور، لاتلبث أن تتحول إلى تشوهات تحمل صاحبها على اعتماد
الأساليب غير المشروعة، لتحقيق أمنياته وآماله.
لذلك كان لابد من تحصين النفس البشرية مما يجرها مرغمة إلى التفلت من القانون، أو
يتسبب - في أفضل الحالات - بالإشتراكات المَرَضية النفسية التي قد تظهر في حالة
كآبة وإحباط وإساءة ظن بالناس أجمعين وعدوانية حاقدة تجاههم.ولاتعني القناعة في
جوهرها الإعراض عن بذل الجهد للحصول على وضع ديني أو دنيوي أفضل، فذلك هو الخمول
والكسل واللامبالاة، بل تعني تجنب الجشع والشره والإستئثار، فقد يكون قنوعاً من
يمتلك ثروة طائلة، وقد يفتقرإلى القناعة من تطويه عجلة فقر مدقع.
القناعة إذاً حالة في النفس لايملك الظاهر أن يعبر عنها إلا بمقدار ماتظهر فلتات
لسان الحال في الفعل ومنه حركة اللسان.إن القناعة هي الرضا بالواقع المعنوي أو
المادي والتعايش معه، مع بذل الجهد لتحسينه ضمن الضوابط المشروعة دون ذهاب النفس
حسرات، ولا استعجال نضج الثمرة التي لم يحن أوان قطافها.
يوضح ذلك أن الإسلام لايضع حداً للتملك يلزم بعدم تجاوزه، وإنما يضبط سبل التملك،
ويمنع من عبودية النفس للممتلكات، لكي لاتنقلب الحقيقة زيفاً ويصبح المملوك مالكاً،
والعكس، كما ينصح بعدم التورط بالدنيا والإشتباك معها لأن عدم تحديد سقف في المجال
المادي يجعل السائر في طلب الدنيا كمن يشرب من ماء البحر، لايزداد إلا عطشا.
أما في الأمور القيمية والمعنوية فإن الإسلام لايرضى بالإلتزام بسقف عادي متواضع،
بل يحث على الإستزادة منها إلى حد طلب أعلى المراتب " واجعلني من أحسن عبيدك نصيباً
عندك وأقربهم منزلة منك، وأخصهم زلفة لديك"نعم يشترط في هذا الطلب أن يكون مصبه "عند
الله تعالى" كما تلاحظ في الفقرة المتقدمة: عندك، منك، لديك. وليس عند الناس، لأن
كون الناس مصب الإهتمام يحوِّل الأمر المعنوي إلى شأن دنيوي منفصل عن القيم والآخرة.
* لاسعادة إلا بالقناعة
مهما شرّقت النفس أو غرَّبت،، فلن تجد السعادة إلا في ظلال القناعة.
"وترضيني بما قسمت لي" شرط أن نفرق بين الواقع
والمرتجى، وشرط أن يكون المرتجى ضمن المسموح والمشروع.
وعلى هذا الأساس فلا داعي إطلاقاً لحصر القناعة بالأمور المعيشية، بل هي تشمل
بالإضافة إليها كل ما يندرج تحت البند الثاني من البنود المتقدمة مما يرتبط بتسهيل
الحركة في الدنيا وفق الأسباب المادية والمعنوية المرتبطة بها، بل وتشمل القناعة في
الأمور المعنوية الصرف.
وتتلخص القناعة في ضوء ما تقدم في أن يتعامل الإنسان مع
كل شيء بحسب ما يستحق، وذلك بمراعاة الآتي:
1- حيث أن الأمور المادية مهمة فهو يهتم بها، ولكن بما أن الأمور المعنوية أهم فهو
يوليها ماناسبها ولا يسمح للإهتمام بسواها أن يطغى على الإهتمام بها.
2- وعندما يهتم بأمر مادياً كان أو معنوياً، فهو يفرق بين الطرق المشروعة للحصول
عليه وبين غيرها.
3- ثم إنه لايسمح للإهتمام أن تحول إلى أزمة نفسية تتراكم مضاعفاتها فتفتك بقلبه
وجسده لاستعجاله تحقيق مالم يحن أوانه.
وهكذا تتحول القناعة إلى واقعية تحمله على المثابرة، بدل أن تكون وهماً يضغط على
أعصابه وحسداً وحنقاً تلتهمه نيرانهما، لتتحقق له السعادة بجناحيها: الرضا بما قسم
له، والأمل بالغد المشرق، يحلق بهما في مناخ سوي بعيداً عن تشنج المتكالبين
وأساليبهم الملتوية.
* من آثار القناعة
ينبغي أن يكون الإنسان راضياً بما قسم الله تعالى له في كل مجال من الفهم والعلم
والموقع الإجتماعي وغير ذلك من الأمور المعنوية، كما ينبغي أن يكون قانعاً راضياً
بما قسم الله تعالى له في الأمور المادية كالمال والسكن ومختلف اللوازم.وتمس الحاجة
إلى تأكيد ماتقدم من أن القناعة لاتعني السعي لتحسين الموقع والظرف، بل تعني أن
لايسلك من أجل ذلك أي سلوك ينافي العقل، فيعتمد قاعدة: الغاية تبرر الوسيلة.
وعندما يكون الإنسان قانعاً في الأمور المعنوية فإنه لا يحسد أحداً أفضل منه على ما
آتاه الله تعالى ويتعامل مع الأمور بواقعية، كما يتخلّص بالقناعة من التعالي
والتكبر الناشيء من حاجة وهمية إلى كونه فوق الآخرين، لأن القانع بما هو فيه يعرف
بشكل أو بآخر حدود نفسه ويرضى بها، ويحب الوصول إلى المراتب العالية ولكن بالطرق
المشروعة، وليس منها التعالي، فلا يعيش التكبر.
وإذا تخلّص الإنسان من التكبر والحسد فقد تخلّص من أهم المنغّصات التي تضيِّق عليه
الخناق وتقض مضجعه ودون طائل، ومن أخطر مصدرين لمساؤيء الأخلاق.كما يتم بالقناعة
التخلص من الرياء والمراء وهو الجدل الذي يهدف إلى إظهار الذات بدلاً من إظهار الحق،
لأن الراضي بما قسم الله له لا يحرص على أن يظهر للناس فوق ما هو فيه، إنه ينطلق من
حقيقة أمره راضياً به فلا يعاني من عقدة نقص تضطره إلى التلبيس.
إن القناعة في الأمور المعنوية تعبير آخر عن تهذيب النفس فالقانع في هذا المجال شخص
عرف حقوق نفسه فوقف عندها وتعامل مع الله تعالى ومع الناس على هذه القاعدة،فلايبتلى
بحجب الإنتفاخ الموهوم التي تمنعه من رؤية حقيقته وذلك يؤهله أن يتوب إلى الله
تعالى بصدق، فيقول من الأعماق: إلهي أنا عبد أتنصّل إليك مما كنت أواجهك به من قلة
استحيائي من نظرك، وأطلب العفو منك.." لأن القانع بما هو عليه في الأمور المعنوية
بعيد عن التكبر، والتوبة لا بد فيها من التواضع والإنكسار والإعتراف بالخطأ،
والقانع بما هو عليه مؤهل لهذه التوبة.
وأما القناعة في الأمور المادية فلأجل استيضاحها ينبغي الإلتفات إلى أن الله تعالى
خلق الإنسان لعبادته، وبعبادته عزَّ اسمه تتكامل إنسانية الإنسان ويصبح أهلاً
للحياة الطيبة بجواره، وللمخلوق حاجاته المادية التي ينبغي الإهتمام بها في الحدود
التي لا تلغي الهدف الأساس من الخلقة، ولا شك أن القناعة هي الصفة النفسية الكفيلة
بإقامة التوازن في مجال الإهتمام بالشؤون المعيشية والمادية عموماً وبفقد القناعة
وحلول الحرص مكانها فإن كل ما في الدنيا لا يكفي الإنسان الذي يصبح في الحقيقة شكل
إنسان.
الأصل إذاً أن يقنع الإنسان بمستوىً معيشي مقبول وينصرف إلى واجباته الأساسية: بناء
نفسه، وقيامه بواجباته: صلة الرحم، بر الوالدين، خدمة الناس، الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر، الجهاد في سبيل الله تعالى،والبحث عن الشهادة، والدفاع عن الحق ضد
الباطل، فإذا لم يقتنع الإنسان ارتفع سقف مطالبه واستمرّ يرتفع، الأمر الذي يستدعي
ارتفاع سقف بذل الجهد في غير ماينبغي، وكلما أصبحت الأماني أكثر، والآمال أعرض،
كلما استدعى ذلك جهداً أكثر حتى يستغرق الجهد وقته من أجل تحقيق ما يطمع فيه ويحرص
عليه، وبالإضافة إلى بذل الجهد الكثير فإن الحريص الذي لا يمتلك القناعة يتجرع
الغصص باستمرار لأنه ينظر إلى ما هو فوقه، ومن راقب الناس مات هماً، عندها ينشغل
كلياً عما خُلق لأجله ويعجز عن تحقيق مطامعه التي تزداد باستمرار ولا تقف عند حد.
كان الناس يعيشون سعداء نسبياً ولم يكن في بيت أحدهم ما يعادل ثمن جهاز واحد من
الأجهزة الأساسية عندنا الآن في منازلنا ويملأ الشخص منا بيته أثاثاً ولا يشعر بتلك
النسبة من السعادة ويظل ينظر إلى من هو فوقه في المجال المادي فيشعر أنه فقير مظلوم
فتذهب نفسه حسرات.
من هنا تبرز أهمية تحديد الهدف من الدنيا، هل جئتُ إلى الدنيا من أجل أن آكل وأشرب
أم أني جئت إلى الدنيا مسافراً إلى وطني والمستقر، ولا بد من الأكل والشرب والتملك
في حدود زاد المسافر الذي يغذ الخطى حثيثاً إلى الموت والقبر والدار الآخرة حيث
الحياة الطيبة بجوار الله تعالى، هذه الحياة التي خُلقت للوصول إليها.
الذي أريد التأكيد عليه أن لا يظلّ أحدنا ينظر إلى من هم فوقه في الإمكانات المادية
ويظلّ حريصاً على الوصول إلى مستوياتهم وإنما ينبغي أن نعرف أن الهدف من وجودنا في
الدنيا هو أمر آخر وأن الأمور المادية هي عوامل مساعدة للوصول إلى الهدف الأساسي.
لا يصح أن يكون وقت الإنسان مستهلكاً في شؤونه المادية، وأين إنسانية الإنسان إذاً؟
* دعاء اليوم الرابع والعشرين
أللهم إني أسألك فيه ما يرضيك، وأعوذ بك مما يؤذيك، وأسألك التوفيق لأن أطيعك ولا
أعصيك يا جواد السائلين.
إلهي طالما أسخطك! لقد مللتُ نفسي لفرط تمردها، فهل تمنّ عليّ بما يرضيك.
ما أسعد من رضيت عنه وما أشقى من حلّ عليه غضبك فهوى.
إلهي، يرتجف القلب وتستبد به الراجفة من هذه الكلمة "يؤذيك"!!!
يالحظي العاثر ومصيري الداثر!
وهذه أيام شهرك ولياليه آذنت بانقضاء فهل تمنّ عليّ فيها بالسعادة، أن لا آتي في ما
أستقبل إلا ما أرضيك، إلهي إليك التجأت وبك استعذت فوفقني لطاعتك واجعلني ممن نظرت
إليه فرحمته وأحللته حماك بجودك يا من أمرتنا بالدعاء وضمنت الإجابة يا جواد
السائلين.
* صلاة الليلة الخامسة والعشرين
1- وهي عبارة عن ثلاثين ركعة ثماني ركعات بعد صلاة المغرب، واثنتان وعشرون بعد صلاة
العشاء، وتقرأ في كل ركعة الحمد مرة وقل هو الله أحد مرة أو بالترتيب الذي ذُكر
مراراً ثلاث مرات أو خمساً أو سبعاً أو عشراً.
2- عن رسول الله صلى الله عليه وآله:ومن صلى ليلة خمس وعشرين منه ثماني ركعات يقرء
فيها الحمد وعشر مرات، قل هو الله أحد، كتب الله له ثواب العابدين3- قال الكفعمي: "ويستحب
أن يصلي في كل ليلة من شهر رمضان ركعتين بالحمد".." والتوحيد ثلاثا،
فإذا سلَّم قال: سبحان من هو حفيظ لايغفل، سبحان من هو رحيم لايعجل، سبحان من هو
قائم لايسهو، سبحان من هو دائم لايلهو. ثم يقول التسبيحات الأربع سبعاً، ثم يقول:
سبحانك سبحانك ياعظيم. إغفر لي الذنب العظيم. ثم تصلي على النبي عشراً. من صلاها
غفر الله له سبعين ألف ذنب.
أسأل الله أن يوفقنا لمراضيه، ويمنّ علينا بعتق رقابنا من النار، إنه أرحم الراحمين.
والحمد لله رب العالمين1.
1-مناهل الرجاء /
الشيخ حسين كوراني.
|