الحديقة الرابعة
وفيها
* لنختبرْ ما نحن عليه
* مراتب الصوم: صوم العوام، والخواص، وخواص الخواص
*ماذا نأكل ونشرب
* الذين يعلمون بأن مأكلهم حرام
* الذين يكون مأكلهم من الشبهات
* الذين يكون مأكلهم حلالاً
* دعاء اليوم الرابع
* صلاة الليلة الخامسة
* لنختبرْ ما نحن عليه
في ضيافة الله عز وجل ينبغي أن نحرص على الوصول إلى أفضل المستويات التي يمكن
الوصول إليها في شهر الله سبحانه وتعالى.
من الطبيعي أن يحب الإنسان الخير لنفسه ويحرص على أفضل مراتب هذا الخير، وليس
طبيعياً على الإطلاق أن يجرَّ الإنسان الضرر لنفسه أو يصرّ على عدم جلب النفع.
لنتصور أنفسنا وكأننا أصبحنا في آخر يوم من شهر رمضان
المبارك، وهذه ليلة العيد على الأبواب ومنادي ربنا عز وجل ينادي: "هلمّوا إلى
جوئزكم" و لنفكر من الآن ما هي الجوائز التي نستحقها أنذاك؟
ليفكرْ كلٌ منا فيقول: أنا، وبطريقة تعاطيَّ مع شهر الله عز وجل، أية جائزة أستحق؟
هل آتي في الرعيل الأول؟هل آتي في المبادرين؟ أم في الدرجة الثالثةأوالرابعة؟
صلاتي في شهر رمضان، أعرفها كيف هي، وأعرف حرصي على طاعة ربي عز وجل بأي درجة،
سواءً كانت هذه الدرجة ضعيفة أو متوسطة أو قوية.
أعرف أيضاً حرصي على قراءة القرآن أو عدم حرصي على ذلك.
وهكذا بحيث تستوعب الأسئلة التي يطرحها كل منا على نفسه جميع المفردات التي وردت في
خطبة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلّم حول شهر رمضان المبارك ونحن مدعوون للإهتمام
بها والإستزادة منها، لنعرف من خلال هذه الأسئلة طريقة تعاملنا معها.
والنتيجة العملية هي أن يستطيع كلٌّ منا أن يقدِّر الدرجة التي يستحقها في مقابل
ماهو عليه، أي أنه إذا استمر على الحال التي هو فيها إلى آخر الشهر الكريم فما هي
حصيلته منه، وما هي الجائزة التي سيعطاها صبيحة يوم الجوائز، يوم العيد المبارك.
ولا شك أننا عندما نتصور أنفسنا من الآن، في أواخر شهر رمضان المبارك سنشعر بدافع
أكبر للتعاطي الأفضل مع هذا الشهر.
* مراتب الصوم
إن المحور العمدة في ضيافة الرحمن هو الصوم، فلقد دعانا عز وجل إلى ضيافته وكرّمنا
بأن جعل الضيافة معنوية، يقول بعض العلماء: "إذا زارك شخص
وقدّمت إليه الطعام إلا أنك لم تحرص على الحديث في الأمور المعنوية، فأنت تهينه".
لا شك أن مما يدل على تكريم الإنسان هو التعامل مع إنسانيته، وسموّ فكره وسموّ
إهتمامه.
أراد لنا الله عز وجل في ضيافته أن نسمو، و نبتعد عن الحيوانية ونحلِّق في الأعالي،
والصوم هو الطريق إلى هذا التحليق.
فكيف نتعامل مع الصوم؟ هل نؤديه بعض حقه، أم أننا نعمد إليه فنفرغه من محتواه؟
وتختلف حالات الصائمين من جهة تعاطيهم مع الطعام والشراب مابين الإفطار والإمساك،
ومن جهة ما يصومون عنه، ومن جهة القصد من الصيام وحقيقة النية فيه، وينبغي أن نتأمل
في هذه الحالات جميعاً ليتضح كيف ينبغي أن يكون صومنا، وكيف ينبغي أن نتصرف لنحفظ
الأساس في الضيافة الإلهية ونحافظ على آثاره ونتائجه.
وهذه وقفة مع الجهة الثانية، أي اختلاف حالات الصائمين في ما يصومون عنه.
* صوم العوام، وصوم الخواص، وخواص الخواص
قال آية الله التبريزي:"مراتب الصوم ثلاثة، صوم العوام
وهو بترك الطعام والشراب ".." على ما قرَّره الفقهاء من واجباته ومحرماته، وصوم
الخواص وهو ترك ذلك - أي ترك المفطرات حسب ما قرَّره الفقهاء - مع كفّ الجوارح عن
مخالفات الله جل جلاله، وصوم خواص الخواص وهو ترك كل ما هو شاغل عن الله تعالى من
حلال أو حرام، ولكل واحد من المرتبتين الأخيرتين أصناف كثيرة، لاسيّما الأولى – أي
صوم الخواص فإنها الأولى من الأخيرتين- فإن أصنافها كثيرة لاتحصى بعدد مراتب أصحاب
اليمين من المؤمنين، بل كل نفس منهم له حدٌّ خاص لايشبه حدَّ صاحبه، ومن أهل
المراتب أيضاً من يقرب عمله من عمل من هو فوقه، وإن لم يكن من مرتبته".
والمراد بكلمة العوام في مصطلح صوم العوام، الذين هم أهل المعاصي، وليس المراد
المتعارف بيننا من أننا نحن معاشر المشايخ أو معاشر المثقفين النخبة والباقي عوام،
إن هذه الطبقية البغيضة مرفوضة في الإسلام، فالنخبة بحق والخواص هم أهل الطاعات،
أهل الإستقامة على الحق وطاعة الله تعالى، والعوام هم أصحاب المعاصي.
وبناء على ذلك فإذا كان شخص من الناس بحسب الظاهر من علماء الدين، ولكنه يرتكب
المعاصي فهو من العوام، وصومه صوم العوام لأن هذا الصوم يجتمع مع المعاصي التي
يجتنبها الخواص الذين يهتمون بدرجة من الصوم غير اعتيادية هي -بالإضافة إلى اجتناب
المفطرات - كف الجوارح عن مخالفة الله تعالى.
والفائدة العملية التي ينبغي أن يستخلصها القلب من ذلك، هي إدراك خطورة معصية الله
تعالى في ضيافته، وأنها تُسقط صاحبها من إمكانية الوصول إلى الدرجات العالية وتجعله
في عداد العوام العاصين.
ليتصور أحدنا نفسه بين يدي الإمام المنتظر عجّل الله تعالى فرجه الشريف، فكيف يكون
مؤدباً في ضيافته هل يعصيه ويتجرأ عليه وهو ينظر إليه؟
هكذا ينبغي أن نكون في ضيافة الله عز وجل، طيلة الشهر الكريم، فإما أن أعتقد بأني
في ضيافة الرحمن، وأنسجم مع هذا الإعتقاد، ويكون أدبي بمستواه، وإما أن أكون صريحاً
مع نفسي، فأقول إني لا أعتقد بضيافة الرحمن والعياذ بالله، وهذا يعني وجود خلل
عقائدي بنيوي يجب التصدي لعلاجه وقد يتم ذلك بسرعة من خلال التفكير بخطبة رسول الله
صلى الله عليه وآله وهو الطبيب الدوار بطبه كما يصفه أمير المؤمنين عليه السلام.
وغالباً ما يكون السبب هو الأول، أي عدم الإنسجام مع مانعتقده، إلا أن الإصرار على
البقاء عليه خطير، ينبغي الحذر منه، فلا يفتك بالقلب مثل العلم بلا عمل.
إننا في شهر الله سبحانه أمام واجب رفع مستوى اهتمامنا بالحكم الشرعي، ورفع وتيرة
اهتمامنا بمراقبة النفس، بالإلتفات إلى أننا في محضر الله عز وجل، وصحيح أننا دائماً
في محضر الله سبحانه وتعالى إلا أننا في هذه الضيافة في محضر خاص ومميز، فلنخرج من
صوم العوام إلى صوم الخواص الذي هو ترك المفطرات مع حفظ الجوارح من مخالفات الله جل
جلاله، وهو يستدعي مزيد مراقبة لهذه الجوارح وخصوصاً اللسان والعين والأذن،
بالتفصيل الذي تقدم في أواخر عمل شهر شعبان، فراجع.
وأماالقسم الثالث و هو صوم خواص الخواص، فهو كما عرفت ترك كل ما هو شاغل عن الله من
حلال أو حرام، أي أنه بالإضافة إلى ترك المفطرات وحفظ الجوارح يستدعي حضور القلب
دائماً، واليقظة الدائمة فالمحضر محضر الله عز وجل و لا يصح للقلب أن يشغله عن الله
تعالى شاغل سواءً كان هذا الشاغل حلالاً أو حراماً، بل يبقى مع الله عز وجل، منقطعاً
إليه، مقيماً على طاعته، عامراً بحبه والحنين إلى رضاه.
صحيح أن هذه المرتبة عالية جداً لسنا من أهلها، إلا أن من الصحيح أيضاً أن معرفة
هذه المرتبة يجعلنا ندرك الذرى التي ينبغي أن نحرص على الوصول إليها، وبدلاً من أن
يضع المؤمن سقفاً معيَّناً للصوم، ويتصور أن مجرد امتناعه عن الطعام يجعله في عداد
الصائمين الذين يغدون في يوم العيد إلى جوائزهم السَنيّة والعظيمة، - بدلاً من ذلك
- يدرك المؤمن عندما يسمع الحديث عن صوم خواص الخواص أن عليه أن يشمّر عن ساعد
الجِد فالطريق طويل والسقف مرتفع جداً،وهو بعدُ سهل ممتنع، أو ليس من أوضح الواضحات
أن على الصائم الضيف أن يتنبه إلى هذه الضيافة على الدوام؟
ثم أليس من أوضح الواضحات أن من هم كذلك في غاية الندرة؟
ولاحل إلا باليقظة والتضرع لمن يجيب دعوة الداع إذا دعاه، والتوسل إليه بمن أمر
بالوقوف ببابه إن أردنا بابه، المصطفى الحبيب وآله الأطهار، صلوات الله تعالى عليهم
أجمعين.
وإذا كنت لا أستطيع ترك كل شاغل عن الله من حلال أو حرام، أي لا أستطيع أن أصوم صوم
خواص الخواص فما الذي يمنعني عن صوم الخواص، أي حفظ الجوارح من مخالفات الله عز وجل؟
ما معنى أن يثبت في صحيفة أعمال الصائم أنه صائم مغتاب؟ أو صائم يؤذي المؤمنين، أو
صائم سيء الخُلُق؟
لماذا لا نقرر أن يكون شهر الصوم شهراً مميزاً في محاسبة النفس، في الحرص على حُسن
الخُلُق، في التفكير بكل كلمة قبل أن نقولها وبكل عمل قبل أن نُقدِم عليه؟
لماذا لا نحرص أن نكون سبباً لنشر المحبة في الأجواء التي نكون فيها في شهر رمضان
المبارك؟
لماذا لا يقرر كلٌ منا أن لا يؤذي أحداً طيلة هذا الشهر على الأقل، لعلّه بذلك
يوفَّق لأن لا يؤذي أحداً بعد انقضائه؟
إن لشهر الله عز وجل حرمته الخاصة، فكيف أسمح لنفسي وأنا أدَّعي الصيام أن أتصرف
كما لو أني لم أسمع بضيافة الله عز وجل؟
أيها العزيز، لا بد من وقفة مع النفس في هذا المجال.
*ماذا نأكل ونشرب
أما أنواع الصائمين من جهة الطعام والشراب، أي كيف يتعاملون مع الطعام والشراب
مابين الإفطار والإمساك، فيوضح آية الله التبريزي عليه الرحمة أنهم على أقسام:
* القسم الأول: الذين يعلمون بأن مأكلهم حرام
قال عن هذا القسم: "منهم من يكون مأكله ومشربه من الحرام
المعلوم فالأجر لمالك الطعام وله وزر ظلمه وغصبه، أو مَثله مَثَل من ركب دابة
مغصوبة إلى بيت الله الحرام وطاف بالبيت على هذه الدابة المغصوبة".و يطلّ
بنا هذا المفهوم على حقيقة تقدم الحديث عنها في حلقات سابقة وقف عندها سيد العلماء
المراقبين السيد ابن طاوس عليه الرحمة والرضوان، وأكد عليها كثيراً وخلاصتها أن على
كلٍ منا أن ينظر في ما يتقلب فيه في شهر رمضان المبارك من مأكل وملبس ومسكن وواسطة
نقل، وجميع ما يستعمله.
كيف يمكن أن أكون في ضيافة الرحمن وأنا أحمل شيئاً مغصوباً، و أتقلّب في حرام، لا
بد وأن أفكر جيداً في حلّيّة ما أتقلب فيه، ولقمة الحرام هي الأخطر، فينبغي التدقيق
بشكل خاص في المأكل والمشرب، وعلى هذه النقطة يؤكد آية الله التبريزي هنا، ويقسّم
الناس من حيث الطعام والشراب إلى أقسام، ما تقدم هو القسم الأول: من يكون مأكله
ومشربه من الحرام المعلوم فالأجر لمالك الطعام وله وزر ظلمه وغصبه.
والحل أن يبتعد عن الحرام، فإذا كان له مورد ماليٌ آخر من الحلال، أو كان باستطاعته
أن يحصل على مالٍ حلالٍ ولو بأن يقترض من أحد ريثما يتدبر أمره، فليحرص على ذلك
ليكون مأكله ومشربه في شهر رمضان حلالاً.
ورغم أن دائرة الإبتلاء بذلك تبدو محدودة بحسب الظاهر، بل تكاد تكون منحصرة في من
عرفوا أن المال الذي حصلوا عليه هومال حرام لأنهم اعتمدوا في تحصيله طريقة غير
مشروعة كالسرقة التي يلجأ إليها البعض بادعاء أنه يجوز لهم ذلك.
* القسم الثاني: الذين يكون مأكلهم من الشبهات
وقد قال الشيخ التبريزي فيهم:" ومنهم من يكون مأكله من
الشبهات،وهو على قسمين: قسمٍ يكون أخْذُ هذا المشتبه الواقعي محلَّلاً له في الظاهر،
وقسمٍ لايكون أخْذُه محلَّلاً، ولو في الظاهر، والأول يلحق في حكمه بمن يكون مأكله
ومشربه من الحلال، وإن كان دونه بدرجة، والثاني بمن يأكل الحرام المعلوم وإت كان
فوقه بدرجة".
ومحل الحاجة هنا من ذلك هو أن الإنسان قد لايدقق في الحكم الشرعي لمورده المالي،
فيكون فيه ما لايجزم بحليته، فهو إذاً مال شبهة، يجب اجتنابه، لأن المؤمن لايقدم
إلا على مايعلم أنه حلال، خصوصاً في شهر الصيام.
والنتيجة أن المطلوب التدقيق جيداً فلا تكون هناك شبهة في مصدر المأكل والمشرب، بل
وكل ما نتقلب فيه كما تقدم.
والواقع أن دائرة الإبتلاء بهذا النوع أي المال الشبهة، واسعة جداً، وأكثر مما
نتصور بكثير، ولابد للصائم من بذل الجهد بمسؤولية أمام الله تعالى، حتى لايطعم أهله
وأولاده ويأكل هو مما يكون وزراً عليه، بحاسب به يوم القيامة.وربما أمكن تفادي ذلك
باليسير من التأمل، كما أنه قد يستدعي المزيد من العناية والسؤال، وقد تقدم في حديث
اليوم الأول ماينفع فيه.
* القسم الثالث: الذين يكون مأكلهم حلالاً
وهم على أقسام، تحدث عنهم آية الله التبريزي بقوله، فقال حول القسم الأول: "ومنهم
من يكون مأكله حلالاً معلوماً ولكنه مترف في كيفية طعامه بكثرة الأنواع، ومترف في
مقداره إلى حدِّ الإمتلاء، ومثله مثل خسيس الطبع الذي يشتغل في حضرة حبيبه
بالإلتذاذ بما يكرهه، وحبيبه متوقع أن لايلتذ بشيء غير قربه، فلذلك كان عبداً خسيساً
لا يليق به إلا أن يُترك وما يلتذ به، وهو بأن يُعدَّ عبد بطنه أولى من أن يُعدَّ
عبد ربه".
ولابد أولاً من توضيح أن للإنسان أن يأكل مقدار حاجة جسمه من الطعام، وقد تكون أكثر
من حاجة غيره، إلا أن من الضروري التفريق بين حاجة الجسم الحقيقية وحاجته الوهمية
الناشئة من الإسترسال وعدم وضع حد للجشع.ليس المطلوب أن يأكل الصائم ما يضعفه
ويمنعه من مواصلة الصيام، بل المطلوب أن لايأكل ما لا داعي له إلا العادة، وحب
الإستزادة.
وإذا لم يدقق في ذلك واسترسل مع شهوة الطعام، فهو عبد بطنه!
ما هو السبب؟
ليتصور أحدنا أنه بين يدي المهدي المنتظر وصي رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد
دعاه الإمام إلى ضيافته فانشغل بأنواع الطعام ولم يكن له هَمّ طيلة الضيافة إلا ذلك!
فهل يليق بنا أيها العزيزأن نتصرف في ضيافة الرحمن عز وجل، وكأن شهر رمضان يتلخَّص
في التفنُّن في الطعام وتناول الكميات الكبيرة منه، والتفنُّن في أنواع الحلويات،
إن هذا لا يناسب شهر رمضان المبارك، ولا يناسبنا فيه.
ومن أراد أن يصوم حقيقةً فلابد له من أن يحفظ التناسب الممكن له بين ليله ونهاره.
وليس معنى هذا أنه لا يجوز للصائم أن يأكل شيئاً يشتهيه، بل معناه أن الأكثر سموّاً
والأكثر نبلاً، هو أن يتعامل الإنسان مع الله عز وجل في شهره، وفي ضيافته بما يناسب.
وليكن ببالنا دائماً: لا يليق بمجالسة الحبيب الإنشغال بالطعام وبالبطن، والأجدر
بمن هذا حاله أن يسمَّى عبد بطنه لا عبد ربه.
القسم الثاني من أقسام من يكون مأكلهم حلالاً
قال التبريزي عليه الرحمة:"ومنهم من يكون حدُّه في الكيفية والمقدار فوق الترف فيصل
إلى حد الإسراف والتبذير، وهو ملحق بمن يأكل الحرام والأجدر به أن يُعَدّ عاصياً لا
مطيعاً". فبالإ ضافة إلى التنوع الكثيرفي الطعام وكثرة كميته، تصل كثرة الكمية إلى
حدّ الإسراف والتبذير، وهذا في حد ذاته معصية.
القسم الثالث:
ومنهم من يكون مأكله ومتقلّبه كله من الحلال بلا ترف ولا إسراف، بل يتواضع لله
تعالى في مقدار طعامه وشرابه، فتنزل كميتهما عن الحد المحلل وغير المكروه، ويترك
التلذد بالطعام والشراب، ويقتصر في الأدام على لون واحد، أو يترك بعض اللذائذ، وبعض
الزيادة.
وهؤلاء – أي القسم الثالث – على درجات، ودرجاتهم عند ربهم
المراقب لحفظ مجاهداتهم ومراقباتهم محفوظة مجزيَّة مشكورة".. ويزيدهم من
فضله بغير حساب، فلا تعلم نفس ما أُخفي لهم من قرة أعين، بل ولاخطر على قلب بشر.
ولابد من الإشارة هنا إلى أن تهذيب النفس في كل مجالاته ومنها الصوم على مراتب
ينبغي التدرج فيها وعدم تكلف مالم تبلغ الهمة التعامل معه ولو بحمل النفس على
ماتكره، ويعني ذلك في باب الطعام أن يتدرج الصائم بلا تهاون في الرقي من مرتبة إلى
أخرى تدرج التلميذ من صف إلى صف، ويختلف التدرج من شخص إلى آخر فلكل جسمه وحاجته،
ولذلك نجد أن آية الله التبريزي رضوان الله تعالى عليه، بين أن هؤلاء على درجات،
وكان قبل ذلك قد ذكر الإقتصار على أدام واحد، ثم قال: أو ترك بعض اللذائذ، فمن لم
يصل إلى مرتبة الإقتصار على لون واحد، يمكنه التدرج نحو ذلك بترك بعض ما يستهويه،
أو التقليل منه، شرط أن يكون هذا التدرج كما مر مرتكزاً إلى قاعدة السير النفسي
باتجاه الهدف. وعلى الله قصد السبيل.
والسؤال الذي يجب أن يوجهه كلٌ منا إلى نفسه: ترى، من أي
الأقسام أنا؟
هذا هو السؤال البداية والرفيق والنهاية.أراد لنا الله عز وجل أن نحصل بالجوع على
نور معيّن، وعلى صفاء باطني خاص، فتضيء قلوبنا و نفوسنا، وهذه الحالة
هي ما يجب أن نحرص عليه أشد الحرص.فإذا ارتكب الصائم المعاصي وهو"صائم"
وبمجرد أن جاء وقت الإفطار اعتبرأنه قد حان وقت الإنتقام من الجوع القاتل! فلن تكون
حصيلته من الصوم ما يلتقي مع هذه الحالة المتقدمة.لا يصح أن نتعاطى مع شهر الله عز
وجل على هذا الأساس.
صحيح أن للجوع وطأته إلا أن من الصحيح أيضاً أن الله عز وجل يريد لنا أن نحفظ هذا
النور الإلهي الذي نحصل عليه من الجوع.
أما أن نعمد بمجرد حلول الإفطار إلى إطفاء هذا النور وإحلال الظلام محلَّه بالتخمة
وتناول ألوان الحلويات إلى حد أن الإنسان لا يستطيع حراكاً ويؤخر صلاته وهو في شهر
الله عز وجل، فأي تعامل مع الطعام والشراب هذا؟!وأي صيام هذا؟! وأيّ نور حصلنا عليه
من الصيام يمكننا أن نحافظ عليه؟!
ثم بالإضافة إلى التخمة في الإفطار، التخمة في السحور!
وقت السحر، هوهذا الوقت الثمين جداً حتى في غير شهر الله تعالى "وبالأسحار هم
يستغفرون" فكيف به في شهر الله عز وجل؟
هل يصح أن نخسره بأكلة؟ بتخمة؟ إذاً ما الذي سأحصل عليه خلال هذا الشهر المبارك؟
هنا أيضاً لا بد من الإشارة إلى أن إعطاء الأهمية التي لا تنبغي للطعام والمقبّلات
وللحلويات، يصرف وقتاً ثميناً من الأمهات بشكل عام في أمور ينبغي أن تُصرف في
العبادة، والذكر، والطاعة.
صحيح أن الطعام ينبغي أن يُعتنى به، إلا أن العناية لا تعني الترف ولا تعني الإسراف
ولا التبذير، بعبارة ثانية: هناك ضرورة ويريد أن يرتاح الإنسان في بعض الأمور التي
لا بد منها، أما أن يُعتبر أن الطعام هو النقطة المركزية وكأن الصيام يتلخص في
تناول أنواع الطعام، فهو أمر ينبغي أن نُعيد النظر فيه.
* دعاء اليوم الرابع
أللهم قوّني فيه على إقامة أمرك، وارزقني فيه حلاوة ذكرك، وأوزعني فيه لأداء شكرك
بكرمك، واحفظني فيه بحفظك وسترك. يا أبصر الناظرين.
يريد هذا الدعاء المبارك أن يُطلّ بنا على الحقائق التالية: إلهي بك عرفتك وأنت
دللتني عليك ولولا أنت لم أدرِ ما أنت، أللهم تمم نعمتك عليّ وقوّني في هذا اليوم
لإقامة أمرك، بامتثال أوامرك ونواهيك، وأخرجني من غياهب الغفلة إلى أُنس الذكر
وحلاوته، واجعلني أتذوق حلاوة حضورك عند ذكرك، واهدني لشكرك على توفيقي لطاعتك،
وشكرك للسماح لي بتذوُّق حلاوة ذكرك. ومن أعظم نعمك علينا جريان ذكرك على ألسنتنا،
فكيف إذاً هي نعمة تذوق حلاوة الذكر! إلهي ليس ذلك بعملي بل بكرمك، فما رأيت إلا
جميلاً واحفظني في يومي هذا بحفظك، أدخلني في درعك الحصينة التي تجعل فيها من تريد
من عبادك. إلهي تراني كما أنا يا أبصر الناظرين، فلاتفضحني بما كسبت يداي، وجلّلني
بسترك، واعفُ عن تقصيري وضعفي وغلبة شقوتي، لعلي أضيف إلى حسن الظاهر حسن السريرة
والباطن، إنك نِعمَ المولى ونِعمَ النصير.
* صلاة الليلة
الخامسة
1- وهي كصلوات الليالي المتقدمة، عبارة عن عشرين ركعة كل ركعتين بتسليمة، يقرأ في
كل منهما الحمد مرة وقل هو الله أحد إما مرة أو ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو
عشراً،و تُصلى هذه العشرون على الشكل التالي: ثماني ركعات بعد صلاة المغرب واثنا
عشرة ركعة بعد صلاة العشاء.
2- عن رسول الله صلى الله عليه وآله: ومن صلى في الليلة الخامسة ركعتين بمائة مرة
قل هو الله أحد في كل ركعة فإذا فرغ صلى على محمد وآل محمد مائة مرة زاحمني يوم
القيامة على باب الجنة
ولعل المراد بمزاحمة المصطفى صلى الله عليه وآله أن من يصلي هذه الصلاة يكون من
السابقين معه إلى الجنة.
3- قال الكفعمي: "ويستحب أن يصلى في كل ليلة من شهر رمضان
ركعتين بالحمد مرة، والتوحيد ثلاثا، فإذا سلَّم قال: سبحان من هو حفيظ لايغفل،
سبحان من هو رحيم لايعجل، سبحان من هو قائم لايسهو، سبحان من هو دائم لايلهو. ثم
يقول التسبيحات الأربع سبعاً، ثم يقول: سبحانك سبحانك ياعظيم. إغفر لي الذنب العظيم.
ثم تصلي على النبي عشراً. من صلاها غفر الله له سبعين ألف ذنب..".
أسأل الله عز وجل أن يوفقنا لمراضيه بالنبي المصطفى وآله، صلوات الله تعالى وسلامه
عليهم أجمعين.
والحمد لله رب العالمين 1.
1-مناهل الرجاء /
الشيخ حسين كوراني.
|