في رحاب أدب الإمام المجتبى عليه السلام
كتب الحسن البصري ـ وهو من أبرز الشخصيات المعاصرة للإمام ـ معرّفاً بأدب الإمام عليه السلام وثقافته:
" أمّا بعد، فإنّكم معشر بني هاشم الفلك الجارية في
اللّجج الغامرة والأعلام النيّرة الشاهرة أو كسفينة نوح عليه السلام التي نزلها
المؤمنون ونجا فيها المسلمون، كتبتُ إليك يابن رسول الله عند اختلافنا في القدر
وحيرتنا في الاستطاعة فأخبرنا بالذي عليه رأيك ورأي آبائك، فإنّ مِن علم الله
علمَكم وأنتم شهداء على الناس والله الشاهد عليكم ذرّيّةً بعضها من بعض والله سميع
عليم". كما تتجلّى لنا مقدرة الإمام الفنّيّة والبلاغيّة من خلال محاولة معاوية لأن يقاطع ذات يوم خطاب الإمام عليه السلام حتى لا يفتتن الجمهور ببلاغته بعد أن اقترح ابن العاص على معاوية أن يخطب الحسن عليه السلام ليظهر عدم مقدرته. وقد أسهم الإمام الحسن عليه السلام في صياغة الخطب العسكرية في عهد أبيه وبعده، كما مرّ علينا، وقد لاحظنا إحكام البناء والتطعيم بالعنصر الإيقاعي والصوري بشكل واضح.
وتميّزت رسائل الإمام ومكاتباته بالاقتصاد اللغوي وبتكثيف عنصر الإشارة الدالّة -أي العبارة المنطوية على شفرات دلالية-، وهذا ما نجده مثلاً في رسالته إلى معاوية ورسالته إلى زياد بن أبيه، حيث لم تتجاوز كلٌّ منهما السطرين، فالأوّل ـ وهو معاوية ـ بعث رجلين يتجسّسان، فكتب عليه السلام:
" أمّا بعد، فإنّك دسست الرجال كأنّك تحبّ اللقاء، لا أشكّ في ذلك، فتوقّعه إن شاء الله، وبلغني أنّك شَمَتَّ بما لم تشمت به ذوو الحجى ".
وأمّا الرسالة الأخرى فقد بعثها إلى زياد حيث نكّل بأحد المؤمنين، فطالبه عليه السلام بالكفّ عن ذلك، فردّ زياد برسالة إلى الحسن عليه السلام جاء فيها:
" من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن بن فاطمة: أمّا بعد، فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك قبلي، وأنت طالب حاجة وأنا سلطان ". واضح أنّ هذه الرسالة من زياد تعبير عن إحساسه المَرَضيّ بعقدة الحقارة والنقص، فهو ينسب نفسه إلى أبي سفيان، وينسب الحسن عليه السلام إلى فاطمة عليها السلام، إلاّ أنّ الحسن عليه السلام أجابه بسطرين، نحسب، حيث كتب عليه السلام:
" من الحسن بن فاطمة إلى زياد بن سميّة، أمّا بعد، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال:" الولد للفراش، وللعاهر الحجر ".
من أدبه عليه السلام المنظوم:
ـ قال عليه السلام في التذكير بالموت:
قل للمقيم بغير دار إقامةٍ حان الرحيل فودع الأحبابا
إنّ الذين لقيتهم وصحبتهم صاروا جميعاً في القبور ترابا
ـ وقال عليه السلام في الزهد في الدنيا:
لكسرة من خسيس الخبز تشبعني وشربة من قراح الماء تكفيني
وطمرة من رقيق الثوب تسترني حياً وإن متّ تكفيني لتكفيني
ـ وله عليه السلام في السخاء:
إنّ السخاء على العباد فريضة لله يقرأ في كتاب محكم
وعد العباد الأسخياء جنانه وأعدّ للبخلاء نار جهنّمِ
من كان لا تندى يداه بنائلٍ للراغبين فليس ذاك بمسلم
ـ وبلغه عليه السلام سبّ ابن العاص له في مجلس معاوية، فقال عليه السلام:
أتأمر يا معاويَ عبد سهم بشتمي والملا منّا شهودُ؟
إذا أخذت مجالسها قريش فقد علمت قريش ما تريدُ
أأنت تظل تشتمني سفاهاً لضغنٍ ما يزول وما يبيدُ؟
فهل لك من أب كأبي تسامى به من قد تسامى أو تكيدُ؟
ولا جدٌّ كجدي يا ابن حربٍ رسول الله إن ذُكر الجدودُ
ولا أمّ كأمّي في قريش إذا ما حصّل الحسب التليدُ
فما مثلي تهكّم يا ابن حرب ولا مثلي ينهنهه الوعيدُ
فمهلاً لا تهيّج بنا اُمورا يشيب لهولها الطفل الوليدُ
ـ وله عليه السلام في الاستغناء عن الناس:
أغنَ عن المخلوق بالخالقِ تغنَ عن الكاذب والصادق
واسترزقِ الرحمن من فضله فليس غير الله بالرازقِ
من ظنّ أن الناس يغنونه فليس بالرحمن بالواثق
من ظنّ أنّ الرزق من كسبه زلّت به النعلان من حالقِ
*سلسلة أعلام الهداية،المجمع العالمي لأهل البيت ع، ط1، 1422هـ، ج4،ص 212-215.
|