دعاء اليوم الخامس عشر "اللّهمَّ ارزقني فيه طاعة الخاشعين، واشرح فيه صدري بإنابة المخبتين1بأمانك يا أمان الخائفين". تتحدّث فقرات هذا الدعاء عن حالتين من حالات القلب، لا بدّ وأن يتحلّى بهما الإنسان المؤمن الذي يطلب رضا الله عزَّ وجلَّ: طاعة الخاشعين، وإنابة المخبتين. 1- طاعة الخاشعين الخشوع هو الخضوع الذي يترافق مع الاعتقاد بأنَّ من تخشع له أعظمُ منك، والخشوع هو فعل من أفعال القلب، فالخشوع يكون أساساً في القلب، نعم هذا الخشوع متى تحقَّق في القلب كان له آثار على عمل الإنسان وعلى جوانحه، ففي الرواية عن الإمام علي عليه السلام: "ليخشع لله سبحانه قلبك، فمن خشع قلبه خشعت جميع جوارحه"2. أنْ تتَّجه إلى الله عزَّ وجلَّ لتطلب منه أن يرزقك طاعة الخاشعين، فهذا يعني أنّ كلَّ طاعة يأتي بها الإنسان من غير المعلوم كونها تصدر من قلب هذا الإنسان ونتيجةً لإيمانه بالله، بل إنَّ من الطاعات ما يكون مجرّد فعلٍ في الخارج، فارغٍ من المحتوى والمضمون. وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله بيان صلاة الخاشعين بقوله: "التواضع في الصلاة، وأن يقبل العبد بقلبه كلّه على ربّه عزَّ وجلَّ، إذا هو أتمَّ ركوعها وسجودها وأتمَّ سهامها صعدت إلى السماء لها نور يتلألأ، وفُتحت أبواب السماء لها، وتقول حافظت على حفظك الله، فتقول الملائكة: صلّى الله على صاحب هذه الصلاة، وإذا لم يتمَّ سهامها صعدت ولها ظلمة وغلّقت أبواب السماء دونها وتقول ضيَّعتني ضيَّعك الله، ويضرب الله بها وجهه"3. ومن المخاطر التي تُحدق بالإنسان العابد المطيع لله، وهي من المكائد التي يضعها الشيطان أمام هذا الإنسان، أن يظنَّ أن الخشوع لله هو بممارسة بعض الحركات بهذا الجسد، فيعمد إلى إظهار ذلك وهو لم ينل شيئاً من حظِّه في الخشوع بقلبه، فهذا المرض هو من أمراض النفاق، ففي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "إيَّاكم وتخشّع النفاق، وهو أن يُرى الجسد خاشعاً والقلب ليس بخاشع"4. إنَّ ما يُقابل الخشوع هو أن يُبتلى الإنسان بقسوة القلب، فيؤدّي العبادة خاليةً عن الروح والمعنى، وهو يسعى لأن ينال مقام القرب الإلهيّ، مع أنّ ذلك يتوقَّف على مدى تعلّق هذا القلب بالله عزَّ وجلَّ. 2- إنابة المخبتين الإنابة هي الرجوع، ورجوع الإنسان إنَّما يكون بالتوبة إلى الله عزَّ وجلَّ، والتوبة هي الباب الذي يمكن للإنسان من خلاله أن يعود به إلى الله عزَّ وجلَّ. ولكن كيف تكون التوبة والإنابة والرجوع إلى الله عزَّ وجلَّ؟ إنّ بالإمكان تصوّر ذلك على نمطين: الأوّل، شخصٌ يتوب إلى الله ويرجع إليه، فيُقلع عن ارتكاب الذنوب والآثام، ويلتزم بالطاعات، ولكنّ ذلك لا يكون منه مع إقبال القلب إلى الله عزَّ وجلَّ، كما هو حال كثيرٍ من الناس إذا تقدّم بهم العمر، فإنَّهم يزهدون في هذه الدنيا لا لأنَّ قلبهم قد تخلّى عن التعلّق بها، بل لأنَّهم علموا بقرب مغادرتهم لها وخروجهم منها، فهي قد تخلّت عنهم وخرجت منهم، وليس العكس. والنمط الثاني، شخص يتوب إلى الله، لأنَّه علم بقلبه أنَّ الأمور كلَّها بيد الله، وأنّ رضا الله عزَّ وجلَّ هو الفوز العظيم، وأنَّ الشرك به وطاعة غيره ظلمٌ عظيم. وهذا هو المعنى المراد من الدعاء، فأنت تدعو الله أن يرزقك توبةً، ولكنّها توبة الخاشعين المخبِتين الخاضعين لإرادة الله. ونقرأ في زيارة أمين الله الدعاء التالي: "اللّهمَّ إنَّ قلوب المخبِتين إليك والهة، وسبل الراغبين إليك شارعة". إنّ هؤلاء المخبِتين أصيبوا بالوله "العشق المفرط" بالله عزَّ وجلَّ، فهم في إقبالهم إلى الله يُقبلون بقلوبٍ تعشق الله ولا ترى عشقا وحباً لغير الله عزَّ وجلَّ. إنّ هذا لا يتحقَّق للإنسان إلّا متى انشرح صدره للحقّ، واستطاع أن يُدرك الحق تماماً. بل تعالَ معي أيَّها المؤمن الصائم لنقرأ كيف يصفُ القرآن هؤلاء المخبِتين قال تعالى: ﴿وَبَشِّرْ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِ الصَّلاَةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾5. إذا هذه صفات أربع، صفتان منها ترتبطان بالباطن وهي: الوجل (الخوف الشديد) والصبر، وصفتان ترتبطان بالظاهر وهي: إقامة الصلاة، والإنفاق في سبيل الله. بل يجعل القرآن الكريم حقيقة الإيمان مرتبطة بهذا الوجل من الله عزَّ وجلَّ، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾6. فهذا الوجَل هو قوام الإيمان الحقيقيّ، وهذا الخوف لا يتحقَّق من الإنسان إلّا مع حالة اليقين التي يعيشها الإنسان والتي ترجع إلى أنّالله عزَّ وجلَّ هو المدبِّر الوحيد الذي بيده أمور الكون كلها، فينبغي أن يتعلَّق قلب الإنسان به فقط دون غيره. ولذا يتوقَّف ذلك أن ينشرح صدر هذا الإنسان لهذه الحقيقة، ويتلقّاها دون شك أو ريبٍ. 1- المخبتين: الخاشعين. 2- عيون الحكم والمواعظ - علي بن محمد الليثي الواسطي - ص 405. 3- بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج81 ص265. 4- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج1 ص 745. 5- الحج:35. 6- الأنفال:4،3،2. |