أمير المؤمنين عليه السلام في محراب الشهادة
وقف أمير المؤمنين عليه السلام في محرابه قائماً يصلّي، وكان عليه السلام يطيل الركوع والسجود في الصلاة كعادته في الفرائض والنوافل حاضراً قلبه، فلمّا أحسّ به ابن ملجم نهض مسرعاً، وأقبل يمشي حتى وقف بإزاء الأسطوانة التي كان الإمام عليه السلام يصلّي عليها، فأمهله حتى صلّى الركعة الأولى وركع وسجد السجدة الأولى منها ورفع رأسه، فعند ذلك أخذ السيف وهزَّه، ثمّ ضربه على رأسه المكرّم الشريف، فوقعت الضربة على الضربة التي ضربه عمرو بن عبد ود العامري1.
ثمّ أخذت الضربة إلى مفرق رأسه إلى موضع السجود، فلمّا أحسّ الإمام بالضربة لم يتأوه وصبر واحتسب، ووقع على وجهه.... قائلاً:
"بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله"....
"فزت وربِّ الكعبة"2...
"قتلني ابن ملجم، قتلني اللعين ابن اليهودية وربِّ الكعبة، أيّها الناس "لا يفوتنّكم الرجل"3...
واصطفقت أبواب الجامع، وضجّت الملائكة في السماء بالدّعاء، وهبّت ريح عاصف سوداء مظلمة، ونادى جبرائيل عليه السلام بين السماء والأرض بصوت يسمعه كلّ مستيقظ:
"تهدَّمت والله أركان الهدى
وانطمست والله نجوم السماء وأعلام التقى
وانفصمت والله العروة الوثقى
قُتل ابن عمّ محمّد المصطفى
قُتل الوصيّ المجتبى
قتلُ عليّ المرتضى
قُتل والله سيّد الأوصياء
قَتله أشقى الأشقياء".
فلمّا سمعت أمّ كلثوم نعي جبرائيل لطمت على وجهها وخدّها.. وصاحت: وا أبتاه وا عليّاه وا محمّداه وا سيّداه...
ثمّ أقبلت إلى أخويها الحسن والحسين... تخبرهما.... فخرجا فإذا الناس ينوحون وينادون: وا إماماه وا أمير المؤمنيناه، قتل والله إمام عابد مجاهد لم يسجد لصنم، كان أشبه الناس برسول الله صلّى الله عليه وآله...
فلمّا سمع الحسن والحسين عليهما السلام صرخات الناس نادا: وا أبتاه وا عليّاه ليت الموت أعدمنا الحياة.
وسار السمّ في رأس الإمام وبدنه، وثار جميع من في المسجد في طلب الملعون، وماجوا بالسلاح فما كان يُرى إلّا صفق الأيدي على الهامات، وعلّوا الصرخات، وكان ابن ملجم ضربه ضربة خائفاً مرعوباً، ثمّ ولّى هارباً وخرج من المسجد...
وأحاط الناس بأمير المؤمنين عليه السلام وهو في محرابه يشدّ الضربة ويأخذ التراب ويضعه عليها، ثمّ تلا قوله تعالى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾، ثمّ قال عليه السلام: جاء أمر الله وصدق رسول الله صلّى الله عليه وآله....
فلمّا سمع الناس الضجّة ثار إليه كل من كان في المسجد، وصاروا يدورون ولا يدرون أين يذهبون من شدّة الصدمة والدهشة، ثمّ أحاطوا بأمير المؤمنين عليه السلام وهو يشدّ رأسه بمئزره، والدم يجري على وجهه ولحيته، وقد خضبت بدمائه، وهو يقول: هذا ما وعد الله ورسوله وصدق الله ورسوله.
فلمّا وصل الحسن والحسين عليهما السلام الجامع ودخلا وجدا جماعة من الناس، وهم يجتهدون أن يقيموا الإمام عليه السلام في المحراب ليصلّي بالناس، فلم يطق على النهوض وتأخّر عن الصفّ، وتقدّم الحسن عليه السلام، فصلّى بالناس وأمير المؤمنين عليه السلام يصلّي إيماءً من جلوس، وهو يمسح الدم عن وجهه ولحيته، يميل تارة ويسكن أخرى، والحسن عليه السلام ينادي: وا انقطاع ظهراه يعزّ والله عليّ أن أراك هكذا، ففتح عينيه وقال: يا بنيّ لا جزع على أبيك بعد اليوم، هذا جدّك محمّد المصطفى وجدّتك خديجة الكبرى وأمّك فاطمة الزهراء والحور العين محدقون منتظرون قدوم أبيك، فطب نفساً وقر عيناً وكفّ عن البكاء، فإنّ الملائكة قد ارتفعت أصواتهم إلى السماء4.
ثمّ حملوا أمير المؤمنين عليه السلام إلى الدار، وكانت زينب وأمّ كلثوم وباقي العلويات واقفات على باب الدار ينتظرنه.
فلمّا رأينه بهذه الحالة بكين وقلن: وا أبتاه، وامصيبتاه5.
* راجع: شهيد المحراب-مقتل أمير المؤمنين ع، معهد سيد الشهداء ع للمنبر الحسيني، ط1، ص 20-24.
1- أنظر: ابن أعثمّ الكوفي: كتاب الفتوح ج 4 ص 278.
2- أنظر: ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 3 ص 312.
3- أنظر: الطبري: تاريخ الأمم والملوك ج 3 ص 157.
4-هذا النص نقلناه ـ بتصرّف ـ عن المجلسي في بحار الأنوار ج 42 ص 276- 281.
5- الشريفي الشيخ محمود: ظلامات ومقتل أمير المؤمنين عليه السلام ص 58.
|